إن مجالس الذكر تطهرنا من السيئات والعيوب وترفع مقامنا عند ربنا بأعلى المنازل والدرجات وتيسر لنا العديد من الأمور والغايات في الدنيا والآخرة، فعن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: يقول الله تعالى:(أنا عن عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خيرٍ منهم، وإن تقرّب إليّ بشبرٍ تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرّب إليّ ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)، وقال أبو الدرداء:(إن لكل شيء جلاء، وإن جلاء القلوب ذكر الله عز وجل).
وفي هذه المجالس تطمئن النفس وتنبعث محبة الله في القلب مضاعفة، وعلى المسلم مراقبة نفسه عن التكاسل والتقصير في العديد من العبادات والتساهل في الذنوب والمعاصي وذكر الله باللسان وحده لا ليس له شئ من الآثار، فلا بد أن كل الجوارح تكون منكسرة خاضعة متذللة خاشعة يقودها القلب إلى الذكر الكثير وحضور هذه الحلقات المباركة.
ولفضل الله ذكر العظيم في حياة المسلمين في رحلة الإسراء والمعراج عندما أسري برسولنا محمد (صلى الله عليه وسلم) وجّه سيدنا إبراهيم (عليه السلام) إلى النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) رسالة إلى الأمة، عن عبدالله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(لقِيت إبراهيم ليلة أُسري بي، فقال: يا محمد، أقْرِئ أُمتك مني السلام - فنقول: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته يا خليل الرحمن، يا أبانا إبراهيم، وعلى نبينا محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ أيضًا - وأَخْبِرْهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله وأكبر).
وغراس هذه الجنة المباركة التي تشد همم المسلمون ليس السباق والتنافس في دنيا فانية ببناء أكبر العمارات والمنازل والعديد من أحوال الدنيا وإنما لأجل الآخرة الخالدة ويكون غراس بهذه الكلمات العظيمة المباركة بالباقيات الصالحات:(سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)، فما يقول المؤمن من كلمة منها، إلا غُرِس له بها في جنته شجرة، فليَستكثر كل امرئ أو يَستقل فعليكم بالذكر الكثير في كل وقت وحين من الأذكار ليوم الحساب لتفوزوا في جنات النعيم بهذه الاذكار المباركة.
أخي المسلم.. يا من شغلتك نفسك والشيطان عن هذه المجاس الإيمانية والجلوس مع اخوانك عبر هذه المائدة العامرة بذكر الله.. اعلم أن النفس خالفها عن غرورها وأحوالها المتقلبة التي تقول لك أنك لست محتاجًا لحضور هذه الحلقات ولديك المعرفة والتبصر في أمور الدين والدنيا التي تجعلك على معرفة بالطاعة التي هي السبيل للعبادة لكن تفكر لحظة ما وجه به الوحي لسيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، قال الله تعالى:(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (الكهف ـ 28).
فكن على حذر ولا تتبع الشيطان والنفس الإمارة بالسوء عند توسوس لك وتقول لك: هؤلاء الجالسون دائمًا في هذه المجالس هم ليس لديهم من العلم والورع والتقوى والمعرفة ولكن حسبك أنهم جلسوا لينالوا الثواب العظيم ويزدادوا معرفة وفهمًا في أمور دنياهم وآخرتهم، فنجد مثلًا خلال كل عام من شهر رمضان تكون المساجد كخلية نحل هناك من يصلي وهناك من يقرأ القرآن وهناك من يتدبر آيات الكتاب الحكيم وهناك فئة اجتمعت في حلقة ذكر يذكرون الله ويسبحونه ويعيشون في مجلس يحبه الله وملائكته الكرام، فكانت همم وقادة مضيئة بنور الإيمان وهي تعيش نفحات شهر رمضان المبارك، وما ان انتهى ذلك الشهر الفضيل أصبحت مجالس الذكر تعاني من قلة الحضور وعزوف الكثير عن حضور هذه المجالس المباركة التي يستنير منها كل مسلم في دنياه وآخرته ويتحجج بعض الأخوة بقلة الوقت، علمًا أنه يقضي الوقت الكثير في أمور الدنيا الفانية، فيقضى وقته أمام المقاهي وفي الملاعب ومتابعة المسلسلات والأفلام ومتابعة وسائل التواصل الاجتماعي والعديد من الأمور الدنيوية، حيث أن وقت هذه المجالس لا يتعدى ساعة واحدة كوقت بين المغرب والعشاء والمحب لهذه الرياض الإيمانية يمكنه تنسيق وقته حتى يحظى بحضور هذه الحلقات التي بها من الفضائل والخيرات والبركات والأنوار الربانية عبر هذه المجالس المباركة، روى معتمر بْن سليمان، عن أبيه، عن قتادة، عن أَبِي العالية، عن سهل بْن الحنظلية، قال: قال رَسُول اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ):(لا يجتمع قومٌ عَلَى ذكر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إلا قيل لهم: قوموا مغفورًا لكم، فقد بدلت سيئاتكم حسنات) (أخرجه ابن منده، وَأَبُو نعيم)، وعن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (ما جلس قومٌ يذكرون اللهَ عزَّ وجلَّ إلا ناداهم منادٍ من السماءٍ: قومُوا مغفورًا لكم، قد بُدِّلَتْ سيئاتُكم حسناتٍ)، وأخرج مثله البيهقي، إنها بُشرى سعيدة ومباركة وثواب وفضل عظيم الذي يحافظ على حضور هذه المجالس، فتبدل سيئاته إلى حسنات.. حقًّا ـ أخي المسلم ـ لا تفوّت هذه النفحات الربانية عبر هذه الرياض الإيمانية حتى تحظى بهذا العفو ومغفرة الذنوب من الرب التواب الرحيم.
أخي المسلم.. أخيرًا تفكر ما تبقى من عمرك في هذه الدنيا الفانية، واحرص على الحضور الدائم في هذه الرياض اليانعة التي ترفرف عليها رحمة الله وما فيها من السعادة في الدنيا والآخرة والثواب والنجاة والفوز في يوم الحساب.. وانطلق من هذه اللحظة من خلال هذه المجالس وشمّر عن ساعديك وأنت تتنافس اخوانك في مجالس رياض الجنان وتحظى بالذكر الكثير وجميع الطاعات والعبادات والأعمال الصالحة لتنال برحمة الله وفضله الجنان.
إعداد ـ مبارك بن عبدالله العامري
كاتب عماني