العدول فـي القرآن الكريم وأهم دلالاته البلاغية والتربوية
من أنواع العدولِ (العدولُ البلاغيُّ)، وذلك في التشبيه، حيث يُنْحَرَفُ بالتشبيه من نوع إلى نوعٍ آخرَ، وهذا لأمرٍ له حكمته، ودلالاته، صحيح أنه يختلف عن العدول النحوي، أو الصرفي، أو الإعرابي، أو العدول عن رسوم المصحف التي سبق الحديث عنها، إلا أنه من أنواع العدول ذات القيمة البيانية، والحِكْمية، والدلالية القوية، ومعلوم أن مجيء ظاهرة مَّا على خلاف مقتضى الظاهر (أيًّا كان لونُ العدول فيها) لها معانيها الجديدة، ودلالاتها الفريدة، ومفاهيمها العديدة، وأن ذلك في كلام البشر له قصد، وغاية، فما بالك بكلام الباري، وقرآنه الكريم؟!، فلا شك أن قيمته المعنوية أشد، ودلالته ، ومراميه آكد.
ونتجاوز ذلك الادعاء النظري إلى التطبيق العملي في كتاب الله؛ لنأنيَ بنماذج حدث فيها عدولٌ بلاغي، ونبحثَ السببَ في ذلك العدول، وتلك المخالفة، ونتعايش مع مخرجاتها، ومقاصدها، ونتعرف عن قرب ملامحها، وغاياتها، ونقف على بعض حِكَمِها.
يقول الله تعالى:(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة ـ 275)، هنا في قوله تعالى:(إنّما البيع مثل الربا)، هو محلُّ العدول، وأصلُ الاختلاف، ولنفهم ذلك نبيِّن أنَّ التشبيه في علم البلاغة قسمان: تشبيه تركيبي، أو تمثيلي، وتشبيه مفرد، أو إفرادي، ويكون المشبه في التشبيه المفرد أقوى من المشبه به؛ ومن ثَمَّ شُبِّهَ الضعيفُ بالأقوى، للمعرفة بالأقوى، كما تقول:(فاطمةُ مثلُ القمر)، و(زيدٌ في السرعة كالقطار، وزيدٌ في الحرب كالليث في غابته، ومحمد في الميدان كغضنفر يزأر في كل مكان).. وهكذا.
ولكنَّ هذا يُسمَّى عند أهل البلاغة التشبيهَ المعتدلَ، أو الأصلي، أو المعدول، أو الوارد على أصله، حيث يكون المشبَّهُ به أقوى من المشبه في الصفة؛ ومن ثم شُبِّهَ به، ولا يكون المشبه فيه هو الأقوى من المشبه به في الصفة، ولكنْ، هناك لونٌ آخر من ألوان التشبيه، وهو التشبيه المعكوس، أو التشبيه المقلوب، وذلك بأن يكون المشبه أقوى من المشبه به؛ لعلةٍ، وحِكْمَة، وقصد، وغاية، هي المبالغة في مزيَّة المشبَّه عن المشبه به، وقوته، وأن دافعَ ذلك هو مزيدٌ من الدلال، وفيضٌ من إضفاء روح الانبهار، والتعجب، والمبالغة في وصف المشبه، وقوته، وأنه خالف ما عليه المشبَّهاتُ العربيةُ، وذلك منهم عندما يبالغون في وصف مَّا، أو يبالغون في شخص مَّا من جهة صفاته التي يتمتع بها دون غيره.
فالتشبيه المعدول، أو الأصلي أن يكون فيه المشبه أقلَّ في صفته من المشبه به، وأن أصله أن المشبه به تكون فيه الصفةُ المُلْتَقِي فيها مع المشبهِ بصورة أرقَّ، وألطفَ، وأندرَ، وأعلى، وأحلى، وأبرزَ، وأظهرَ، بينما التشبيه المقلوب، وغير المعدول، أو المعكوس فإنه يكون فيه المشبهُ أقوى في الصفة من المشبه به؛ مبالغةً، وانبهارا، ومحبة في اتساع وصفه، واقتدارا، واعترافًا من الناثر، أو الشاعر، أو الكاتب، وإقرارا، كما تقول مثلًا: القمر كفاطمة، والقطار كزيدٍ في السرعة، والجبلُ كمحمدٍ في الرسوخ، والثبات، والسيفُ كَيَدِ زيد في البتر، والقطع، والإيلام.. ونحو ذلك من تشبيهات مقلوبة.
د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية