انتشرت في الآونة الأخيرة على وسائل التواصل الاجتماعي مثل «تيك توك» و»إنستجرام» والَّتي تصدرت «الترند» استعراض كثير من الشباب وحتَّى الأكبر سنًّا صوَرهم الَّتي صنعوها عن طريق برامج تعديل الصور بالذكاء الاصطناعي مثل «نانو بانانا» الَّذي أطلقته جوجل لتبدو حقيقيَّة وواقعيَّة، وهي في الواقع محض أحلام صاحبها.. مثل أن تجمعه صورة بنجمه المفضل أو بأحد أفراد أُسرته الَّذي فارق الحياة أو حتَّى بنفسه وهو صغير السِّن أو مَن تجعل نفسها رشيقة وجميلة على غير الحقيقة وغير ذلك بدمج أكثر من صورة معًا في صورة واحدة جديدة مصنوعة بدقَّة متناهية أو التعديل على الصورة وفْقَ هوى صاحبها بما يثير الذهول والدهشة.
قد يقول البعض إنَّ هذا شيء لطيف يحمل السعادة لصاحبها، بَيْنَما في الحقيقة هو سم رقمي يندس وراء هذه السعادة اللحظيَّة الزائفة؛ لأنَّ الذكاء الاصطناعي بمنتهى السهولة يخترق خصوصيَّة الإنسان وأمان معلوماته الَّتي تتحول مع البيانات الَّتي يدخلها وكافة تفاصيل الصور إلى مرجعيَّة يحتفظ بها لوقت الحاجة.. فالغريب أنَّه يطلب من المستخدم الموافقة على شروط المشاركة والَّتي تكُونُ عبارة عن بيان طويل يدفع الإنسان للضغط على زر «موافق» مباشرة دون قراءة بنود الاتفاقيَّات والَّتي تمنح الشركة حقّ استخدام هذه الصور لأغراض مختلفة قد تشمل التدريب أو إعادة النشر أو حتَّى التعديل عليها وهو لا يدرك ذلك.
لا شك أنَّ مثل هذه الصورة المسمومة الَّتي تُحقق أحلام صاحبها القديمة أو تكسبه جمالًا باهرًا يسرق الأنفاس لا تحمل ملامحه فقط، بل كافة تفاصيله مثل ذلك المستخدم من الهند الَّذي فوجئ بوجود شامة على صورته بعد التعديل لم تكن موجودة في الصورة الأصليَّة، ولكنَّها موجودة في الواقع ولم ينتبهْ لها هو شخصيًّا.. وهو ما يثير تساؤلًا: كيف عرف النظام بوجودها؟
إنَّ مثل هذه التطبيقات تُعَدُّ كالمرآة أو العين الخفيَّة الَّتي ترى في الصورة أو الحقيقة ما لا يرى صاحب الصورة نفسه فيها، فتخترق خصوصيَّته دون إذن أو حتَّى اختيار.. فنحن لا نعلم كم من التطبيقات أرسلت لها هذه الصورة وكم متصفح تمكَّن من الولوج إلى هذه البيانات الَّتي تتلاقف بَيْنَ يديه بكُلِّ سهولة.. فكم من موقع يدعو المستخدم بشعار «شارك صورتك مجانًا» ورغم أنَّ مثل هذه التطبيقات الذكيَّة تكلف الأموال الباهظة، فكيف إذن ترفع شعار المجانيَّة أليس هذا ما يثير الريبة والشك، وأنَّ المستخدم على وشك الوقوع في الفخ؟!
إنَّ التفاصيل الدقيقة الَّتي تحملها الصورة كالموقع ووقت الالتقاط وغيرها تستخدم لدى النظام لتكوين بصمة رقميَّة تُباع وتُستخدم في خدمات وأغراض أخرى لا يعرف عنها صاحبها شيئًا.
لا شك أنَّ الهوس بالمظهر أحد الأسباب الرئيسة لاستخدام مثل هذه التطبيقات المشبوهة، ولكن لا يعرف صاحبها أنَّه عِندَما يقارن صورته المعدلة بالحقيقيَّة وبما تحمله من معايير لا وجود لها في الواقع معتقدًا أنَّ المعدلة هي الأجمل لأنَّها الأقرب لما يريد أن يكُونَه، إنَّما بذلك يدمِّر نفسه وشعوره بالواقع ولا يتقبل شكله الحقيقي وتهتز ثقته بنفسه.. وتتحول لحظة الفرح من الابتكار إلى تذمر وسخريَّة مستمرة.
إنَّ الذكاء الاصطناعي يتمدد كالظل الَّذي لا يُرى.. يتنفس عَبْرَ الخوارزميَّات، بل قد يتحدث بصوت البشر مثل تطبيق «جيميناي» الَّذي يطلق عليه الابن الأذكى للتقنيَّة.. فهو قادر على الفهم والابتكار ويعرض الأجوبة كحقائق مقدَّسة في صورة منمقة وبديعة حتَّى تكُونَ مقنعة ولكن في جوفه يكمن الخطر.. فحينما تسأله عن الدواء يمنحك العلاج وكأنَّه أمهر الأطباء، وحينما تطلب منه الحكمة تجده يضلك أكثر مما يهديك لتتهوه في بحر من الكلمات دون أن تدري أنَّ البوصلة مبرمجة لتقودَك حيثُ لا تدري.. كما أنَّ جيميناي قادر على أن يتمثل بنا في نبرة الصوت وفي نسَق الفكر والتعبير عن المشاعر.. يحادثك كصديق فينسيك أنَّه بلا قلب.. ينصحك كطبيب فيقنعك أنَّه يملك الضمير.. وهكذا تبدأ الحدود بَيْنَ الإنسان والآلة في التلاشي حتَّى يصبح من الصعب أن تميز من الَّذي يفكر فيك ومن الَّذي يفكر عنك.. ناسين أنَّه حين نسلم قراراتنا لأصوات رقميَّة بلا روح نكُونُ قد تنازلنا عن جزء من إنسانيَّتنا طواعية باسم الراحة والسرعة والذكاء.
لقد كان الإنسان صندوقًا مغلقًا لا يعرف مفتاحه أحد ويخبئ أسراره في قلبه.. أمَّا اليوم أصبحنا نفشي أسرارنا لآلة لا تنام، بل تحفظ كُلَّ ما يقال وتحلِّله وتُعيد استخدامه في طُرق لا نعرفها.. فكم من صورة نرفعها وكم من فكرة نكتبها وكم من سطر نرسله دون أن نسأل: إلى أين تذهب؟ ومن يقرؤها هناك في البعيد؟.. ونحن لا نعرف أنَّ عقول الشبكة ليست مجرَّد صدى لأسئلتنا، بل مرآة ذكيَّة تحفظ ملامحنا أكثر مما نحفظ نحن أنفسنا.
إنَّ الدعوة هنا ليست إلى الخوف، بل إلى الوعي.. فالذكاء الاصطناعي كالنار تدفئك إن أحسنت استخدامها وتحرقك إن غفلت عنها.. فلنحذر من أن نصنع أدوات تفكر بدلًا منَّا ثم نلومها حين تخطئ الطريق.. ورُبَّما يُعيد لنا تطبيق الصور المعدلة صورة من زمن فات أو حلم كنَّا نحلم به، ولكن علينا ونحن نخوض مغامرة الصورة أن نحمل حقيبة الوعي ونفرق بَيْنَ الرسمي والموثوق ولا نقدِّم للفضاء الرقمي إلَّا ما نُحب أن نظهره ليس رغبة في أن «نبدو أفضل» بل علينا أن نكتشف الأجزاء في ذواتنا الَّتي لا تطمس الهُوِيَّة.
ناصر بن سالم اليحمدي
كاتب عماني