في عالم تتجاذب المصالح، وتُثقل كاهله الصراعات، وتتعمق فيه الفجوة بَيْنَ الشعوب بسبب النزاعات والحروب والتهجير والمجاعات، يبرز مفهوم «التسامح الإنساني» كقِيمة سامية لا غنى عنها، بل كضرورة وجوديَّة لضمان استمراريَّة الإنسان وتطوره في بيئة يسودها الأمن والسلام، لذلك لم يَعُد التسامح مجرَّد قِيمة أخلاقيَّة أو منهج تربوي أو خيار اجتماعي، بل أصبح إحدى أهم ركائز بناء المُجتمعات الحديثة وتحقيق التَّنمية المستدامة والتعايش المشترك، حيثُ تسهم ممارسة التسامح في تعزيز الاستقرار ونبذ العنف والكراهية، بما يُمهّد الطريق أمام مستقبل أكثر انسجامًا وعدلًا.
في هذا الإطار، تبرز المدرسة بوصفها أحد أهم الفضاءات الَّتي يُمكِن أن تحتضن هذا الدَّوْر، نموذجًا حيًّا وفعَّالًا لترسيخ قِيَم التسامح الإنساني، حيثُ تتحول من مؤسَّسة تعليميَّة تقليديَّة إلى منظومة متكاملة لبناء الإنسان، ليس فقط من خلال تقديم المعرفة والمهارات، وإنَّما عَبْرَ تنمية الوعي الأخلاقي وبناء الذَّات وتعظيم مفهوم إعادة إنتاج السلوك وفْقَ محكَّات وقواعد وأُطر، وتعزيز مفهوم العيش المشترك وقَبول الآخر واحترام التنوع وتكافؤ الفرص في الحصول على تعليم عالي الجودة. فالمدرسة هي المكان الأول الَّذي يتعرّف فيه الطفل على «الآخر»، وهي البيئة الَّتي تحتضن الاختلاف في كافة أشكاله، الدينيَّة والثقافيَّة واللُّغويَّة والاجتماعيَّة، وتكتسب المدرسة دَوْرًا محوريًّا في صناعة التسامح التعليمي وإنتاجه وتعظيم أثره وتعلمه وتعليمه، كممارسة يوميَّة ملموسة تُترجم في العلاقات والسلوكيَّات والقرارات.
إنَّ طرح التسامح الإنساني كمنطلق لجودة حياة المدرسة، يضع القائمين على التعليم أمام مسؤوليَّة توظيف البُعد الإنساني الاجتماعي التشاركي للمدرسة نَحْوَ إيجاد إطار عمل لنمو التوقعات وترقية الشعور الذَّاتي لدى المتعلم، فالمدرسة بذلك حاضنة وطنيَّة وبيئة نموذجيَّة تحتوي الفرد وتسعى لبناء ذاته وتوظيف مهارات وإعداده لانطلاقته الصحيحة في الحياة، وتكيفه مع طبيعتها المتغيرة والتكيف مع وظائفها المتشعبة.
وتقوم المدرسة بهذا الدَّوْر انطلاقًا من منظومة قِيَميَّة وأخلاقيَّة واضحة، تتجلى في طبيعة العلاقات القائمة بَيْنَ أفراد مُجتمعها من معلِّمين وطلاب وإدارة وأولياء أمور، حيثُ تُبنى هذه العلاقات على أُسس من الاحترام المتبادل، والتقدير، والثقة، والتواصل الإيجابي، ما يجعل المدرسة نموذجًا مصغرًا لمُجتمع متسامح ومتوازن، ويصبح الاحترام الَّذي يُكنّه الطالب لمعلِّمه، والتقدير الَّذي يتلقاه المتعلم من محيطه، والثقة المتبادلة بَيْنَ الجميع والشراكة القائمة بَيْنَ المدرسة والمُجتمع، منظومات حياة وتعبيرات حقيقيَّة عن بيئة متسامحة، ترسّخ معاني العدل والمساواة والقَبول والتنوع والشعور الجمعي بالمسؤوليَّة.
ولا يقتصر دَوْر المدرسة على الجوانب الداخليَّة، بل يمتد إلى البيئة الخارجيَّة والمُجتمع المحيط، حيثُ تسهم في إعداد مواطن مسؤول يؤمن بِدَوْره في بناء وطنه، ويمارس مسؤوليَّته تجاه مُجتمعه بروح إيجابيَّة، متسلحًا بالقِيَم الإنسانيَّة والأخلاقيَّة، كجزء من المسؤوليَّة التربويَّة والتعليمة والاجتماعيَّة الَّتي تضطلع بها المدرسة، في إطار وعيها بالمستجدات والتغيُّرات المتسارعة في العالم، وسعيها الدَّائم نَحْوَ تحقيق أثر نوعي في حياة الأفراد والمُجتمعات.
وتزداد أهميَّة هذا الدَّوْر في ظل ما يشهده العالم من تحديات كبرى، سواء في المجال الرقمي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي، أو الفكري واتساع تأثير الأفكار السلبيَّة والظواهر الاجتماعيَّة والمؤثرات والَّتي تستدعي دَوْرًا نشطًا وقويًّا ومتوازنًا ومؤثرًا لمؤسَّسات التعليم في البناء الفكري للناشئة، وامتلاكهم مهارات التفكير النقدي، والتحليل وتمكّنه من التعاطي مع التغيرات المتسارعة في عالمه بعقل منفتح وروح متسامحة، تُقدّر الحوار وتحترم الاختلاف.
فالمدرسة بهذا المفهوم تصبح مختبرًا حقيقيًّا لبناء جيل متسامح، مؤمن بقِيمة التعاون والحوار، وقادر على ممارسة التسامح كجزء أصيل من شخصيَّته. وتتحقق هذه المهمَّة من خلال مجموعة من الممارسات التربويَّة الفاعلة الَّتي تبدأ من تصميم المناهج، مرورًا بأساليب التعليم والتعلم، وانتهاءً بقواعد السلوك وحركة التفاعل اليومي في البيئة المدرسيَّة، على أن إدراج مفاهيم التسامح في المضمون والمحتوى التعليمي بحاجة إلى مناخ مدرسي يُعزز هذه القِيَم ويمارسها واقعًا حيًّا.
وفي الإطار نفسه يُمكِن تحقيق التسامح التعليمي في بيئة المدرسة عَبْرَ توظيف منصَّات التواصل الاجتماعي والفضاءات الرقميَّة ووسائط المعرفة الإلكترونيَّة في نشر قِيَم التسامح، وعَبْرَ تجسيد هذه القِيمة في قواعد سلوك مستخدمي هذه المنصَّات والحوارات وردود الأفعال وعدم مصادرة الفكر، فإنَّ ما يحصل اليوم عَبْرَ منصَّات التواصل الاجتماعي من تنمُّر فكري وارتفاع مساحات الخلاف ونشاط غير مسبوق في هذه المنصَّات للتطرف والغلو والكراهيَّة وما أنتجته من تشوهات أثَّرت على حياة الناشئة وقناعاتهم، يضع المدرسة وغيرها من مؤسَّسات التعليم أمام بناء قدرات الطلبة التقنيَّة وتعليم الطلبة كيف يكُونُون مواطنين رقميين متسامحين، يمارسون الحوار بأدب، ويستخدمون المنصَّات الاجتماعيَّة لبناء العلاقات الواعيَّة والمسؤولة، فإنَّ الاستخدام الواعي للتقنيَّة في بيئة المدرسة أداة مهمَّة لتوجيه سلوك الطلبة، وتعزيز مهارات السلام الداخلي والذكاء العاطفي والوجداني وتقبُّل الآخر.
وبِدَوْرها تُعَد الأنشطة الطلابيَّة والتعليميَّة مجالًا واسعًا لترسيخ هذه القِيَم، إذ إنَّها تمنح الطالب فرصة للتفاعل العملي مع زملائه، والانخراط في تجارب جماعيَّة تُعزز روح الفريق، وتُنمِّي مهارات التواصل والاتصال والعلاقات البنَّاءة القائمة على العمل المشترك، واحترام الاختلاف كمدخل للتكامل، ناهيك عن القِيمة المضافة للأنشطة بما تؤسِّسه من فرص تطوير شخصيَّة الطالب واستنطاق القيَم واستنهاض الدوافع والرغبات في بيئة داعمة تُثمن جهوده وتحتفي بإنسانيَّته، وتزرع فيه معاني التقدير للآخر.
ويبقى التساؤل: كيف نجعل من المدرسة إطارًا لتحقيق التسامح المؤطر لقِيَم التكامل والحوار والتعاون وتفهم طبيعة الآخر والتعايش في بيئة تنافسيَّة مختلفة؟ وكيف توظف المدرسة الذاكرة الحضاريَّة لديها في تأصيل ثقافة التسامح من خلال تأصيل مفهوم التعلم النشط لدى المتعلم وتقريب روح المفاهيم وإجراءات العمل لدَيْه بالشكل الَّذي يضمن تكيف الفرد معها وقدرته على التلذذ بها والاستمتاع بتعلمها، بما يضمن وجود اتفاق تشريعي أخلاقي في بيئة التعليم تترجم وتجسد قِيَم التسامح وتقرب قناعات المتعلم منه؟ ومن جهة ثالثة كيف يُمكِن تقليل حالة التباين في الظروف المعيشيَّة للطلبة لتبرز صورة تعاونيَّة جمعيَّة تنعكس على جودة حياة الطلبة محدودي الدخل والطلبة المعسرين وشعورهم بالانتماء لمدرستهم؟
إنَّ الإجابة عن هذه التساؤلات في ظل ما تم طرحه من قِيَم التسامح الإنساني تضعنا أمام قراءة التسامح التعليمي كمشروع حضاري إنساني تتجه به إلى التطبيق العملي الَّذي يتجاوز فيه التسامح الشعارات العابرة، إلى سلوك إنساني معتدل متجذر في تفاصيل الحياة اليوميَّة داخل المدرسة، يظهر في طريقة الحوار، وأسلوب التواصل، وفي نظرة المعلم لطالبه، وفي اهتمام الإدارة بمشكلات الطلبة، وفي احترام الطالب لزميله، وفي أنشطة الفريق، وفي تقبُّل الفروق الفرديَّة، وفي احتضان التنوع لا رفضه، لتظل المدرسة نموذجًا حقيقيًّا لصناعة التسامح الإنساني، في عالم معاصر يشهد صراعات وحروب عبثيَّة وسقوط لا أخلاقي، لِتكُونَ المدرسة الرهان في الخروج من تداعيات غوغائيَّة السياسة وما خلَّفته من إقصاء للآخر وشحن للشعوب ونشر للفوضى وتغريب للقِيَم والأخلاق وانتزاع للأمن والسلام وتكريس لُغة الكراهية والعبث بمقدرات الشعوب، وتعميق العدوات والخلافات والفتنة والإقصاء وفرض لُغة الحرب والعدوان والقوَّة وانتهاك السيادة، أو سياسة الكيل بمكيالين في التعامل الأمم المتحدة مع قضايا الشعوب وحقوقها، والغطرسة الأميركيَّة و»الإسرائيليَّة» الَّتي باتت تتحكم في قضايا العالم وحقوقه، ويصبح التعليم هو المرشح لإدارة هذه الحالة الَّتي سقط قناع السياسة فيها، فهو صاحب المنافسة والرهان الَّذي يُمكِن خلاله إعادة الإنتاج السياسي والثقافي والفكري عَبْرَ تأصيل القِيَم المشتركة والتفاهمات النوعيَّة بما من شأنه أن يعيد تصحيح موازين المعادلة وضبط بوصلة التوجُّه فيوجهها لصالح الإنسان ويؤسِّسها وفْقَ القِيَم والأخلاقيَّات حفاظًا على هُوِيَّة الشعوب وثقافاتها والتعريف بمنجزها البشري لِيكُونَ التعليم بذلك رابطة عالميَّة تحمل الخير وتؤسِّس للتَّنمية وتبني التفاؤل في معالجة حالات التشاؤم والقلق والسلبيَّة الَّتي أوجدتها النزعات السياسيَّة المشؤومة، ليتجلى دَوْر التعليم في الحفاظ على السلام الداخلي والتسامح، وتنظر إليه باعتباره مشروعًا للحياة، وأداة لصناعة السلام، وجسرًا نَحْوَ مستقبل أكثر عدالة ورحمة. إنَّها بيئة حاضنة للسلام، ومختبر للقِيَم، وساحة لبناء الإنسان بكُلِّ ما فيه من طاقات وقدرات وتطلعات. لذلك، فإنَّ دعم المدرسة، والاعتراف بِدَوْرها، وتوفير كُلِّ ما تحتاجه لأداء رسالتها، هو استثمار في مستقبل البشريَّة، وخطوة نَحْوَ عالم أكثر إنصافًا وتسامحًا واستقرارًا. فاستنطقوا في التعليم والمدارس روح الحياة، ومنطق الحوار، وتعظيم المشتركات، وصناعة فرص الالتقاء لعالم يَسُوده الحُب والسلام ويعيش مواطنيَّة الأمن والاستقرار.
د.رجب بن علي العويسي