من أجمل ما قرأت من الحِكم للحضارة الدبلوماسيَّة الإسلاميَّة هي: (سبحان مغير الأحوال من حال إلى حال) والباحث في مفردات الدبلوماسيَّة والعلوم السياسيَّة والدوليَّة يلمس الكثير من التغيرات الإيجابيَّة والسلبيَّة على مدى السنين الغابرة.
بعد انتهاء الحرب العالميَّة الثانية وبوادر تأسيس القطب الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأميركيَّة وبريطانيا والدول الَّتي تسير في فلكها، والقطب الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي ـ آنذاك ـ ومعها لاحقًا الصين والدول الَّتي تتبعها. نظريَّات الدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة وأدواتها كان تنفيذها يعتمد كثيرًا على استراتيجيَّات ونظريَّة وأهداف الأحزاب الَّتي كانت تعج بالمنطقة، سواء بالعالم الثالث أو الشرق الأوسط. إنَّ أجندة العلاقات العامَّة كانت كثيرًا تعتمد على الهُوِيَّة الوطنيَّة الَّتي تتبعها الدولة أو الحكومة، فعلى سبيل المثال دولة (أ) لها علاقات دوليَّة مع دولة (ب) استنادًا إلى توافق الآراء والاستراتيجيَّات في الأهداف الحزبيَّة والرؤية المستقبليَّة والأهداف المرسومة، وإن كانت هناك بعض الاختلافات في التطبيق أو أيديولوجيَّات العمل. هذه المفردات كانت سائدة في أواسط القرن الماضي تحكمها العلاقات الدوليَّة السياسيَّة والمصالح المشتركة في تحقيق ونشر ثقافة ذلك البلد استنادًا إلى الاتفاقيَّات الموقَّعة بَيْنَ الطرفين. بداية القرن الحالي بدأت تتلاشى كثيرًا من الأحزاب؛ لأنَّها لم تتحقق الأهداف المرسومة لها، وأيقن المواطن العادي بأنَّ هذه الأحزاب كانت تصطاد في المياه المالحة عكس البلدان الَّتي نشأت بحزب واحد أو حزبَيْنِ معتمدين على تطوير وتطبيق الدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة لغرض رفاهيَّة شعوبها بعيدًا عن الشعارات الرنَّانة والَّتي تملأ كتبهم ومنشوراتهم ولم تحقق إلَّا الجزء اليسير، ويكاد يكُونُ لا يذكر استنادًا إلى الفترة الزمنيَّة الَّتي تأسَّست فيها تلك الأحزاب والَّتي تترأس الحكومات في ستينيَّات وسبعينيَّات القرن الماضي. تتفاخر المدارس الدبلوماسيَّة المتخصصة بالعلوم السياسيَّة، وخصوصًا في أوروبا الغربيَّة بإحياء نظريَّات وسِمات الدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة مستندة إلى العلاقات الدوليَّة السياسيَّة التاريخيَّة في أرضيَّة تلك المنطقة، موضحة أهميَّة الاعتماد على الأهداف التكتيكيَّة والاستراتيجيَّة للدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة بعيدًا عن الشعارات السياسيَّة البحتة المتخندقة والَّتي لا تخدم رفاهيَّة الشَّعب واستقرار البلد. تُعَدُّ الدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة من أهم أهداف الحكومة الرشيدة الَّتي تسعى لإسعاد شَعبها وبناء بلد حضاري بعيدًا عن الهوس الحزبي والشعارات الزائفة الَّتي تسوق كثيرًا من العقول في خندق مظلم على أمل الوصول إلى مستقبل زاهر، عكس سِمات وأدوات الدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة الَّتي تعتمد كثيرًا على المجالات الاقتصاديَّة والتجاريَّة وتبادل المصالح المشتركة بَيْنَ الطرفين بعيدًا عن التشنجات السياسيَّة والتدخل في شؤون البلد الآخر؛ لأنَّ مثل هذه العلاقات السياسيَّة تشوب تطبيق العلاقات الاقتصاديَّة وتوقيع الاتفاقيَّات. بكُلِّ فخر واعتزاز ومهنيَّة عالية ورؤية مستقبليَّة ثاقبة معتمدًا على الدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة ومتوهجًا بتاريخ وعُمق العلاقات الدوليَّة التاريخيَّة، حمل جلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ راية الدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة، ويجوب بها شرقًا وغربًا لتحقيق الرفاهية للشَّعب العُماني الأصيل، ويتجاوز العقبات ويغلق باب المديونيَّة بتقليل أو تخفيض الدَّيْن العام أو العجز المالي، وبحمد لله والشكر والجهود الجبارة الَّتي بذلها بخطوات واثقة ورصينة تم تحقيق الأهداف. العلاقات الدوليَّة تختلف كثيرًا عن العلاقات السياسيَّة وطُرق تطبيقها وأهدافها مع الدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة، لذلك الدبلوماسي الناجح والمميز والَّذي يطبق الدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة بكُلِّ أدواتها فإنَّه يجني ثمارها بالعلاقات الدوليَّة، وهذا ما تم ملاحظته من زيارة جلالة السُّلطان المُعظَّم إلى كثير من الدول الَّتي زارها (زيارة دولة)، حيثُ يلتقي برجال الاقتصاد وكبار رجال الأعمال، موضحًا لهم مميزات السياحة الاقتصاديَّة العُمانيَّة بكُلِّ تنوعها، ويقضي معهم وقتًا أكثر للرد على استفساراتهم ليسهل ويبسط جميع المفردات الَّتي يحتاجها رجال الأعمال. الجامعات الصينيَّة والإنجليزيَّة بتسابق محموم حَوْلَ تطبيق الدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة، وجعلها الأداة الجوهريَّة بِيَدِ هرم الدولة ورجال حكومته، وهي الَّتي تفتح أبواب الرخاء والاقتصاد المتين للبلد؛ وبالتالي هي الَّتي ترفع من الدخل القومي للفرد، وكذلك تعزيز الصندوق السيادي للبلد. إنَّ تاريخ الدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة بدأ يتبلور في بدايات القرن التاسع عشر، واهتمَّت به كثيرًا المدارس الدبلوماسيَّة البريطانيَّة، حيثُ أكدت أنَّ نجاحها وتفوُّقها يأتي من مركزيَّة القرار، ثم فريق العمل وتاريخ الدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة صراحة يبدأ من حضارة مجان (سلطنة عُمان)، حيثُ كانت الأساطيل البحريَّة المتواضعة محمَّلة باللبان والأحجار والمعادن إلى مصر الفراعنة في فصل الصيف لتجلب منهم الأقمشة والصوف.. وغيرها من المواد الاستهلاكيَّة للفرد، وفي فصل الشتاء تبحر إلى البصرة (حضارة وداي الرافدين، أرض السواد) لجلب المواد الغذائيَّة بمختلف أنواعها، وكان العُمانيون ـ آنذاك ـ هم خبراء البحر والتجارة في تبادل المصالح المشتركة إلى وقتنا الحاضر رغم محدوديَّة الأدوات وما زالت السمعة الاقتصاديَّة العُمانيَّة إلى الآن تتمتع بالجودة والمصداقيَّة العالية بعيدًا عن المراوغة وعدم المصداقيَّة.
د. سعدون بن حسين الحمداني
دبلوماسي سابق والرئيس التنفيذي للأكاديمية الدولية للدبلوماسية والإتيكيت