«إنَّ من البيان لسحرا وإن من الشعر لحكمة»، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، من خلال هذا الأثر النبوي، يدرك القارئ المتمعن له تلقائيًّا أهميَّة الشعر العربي في فهم الحياة بمكوِّناتها وتحدِّياتها وجمالياتها المختلفة، فهو كلمات موزونة تنبع فكرًا وعاطفة وحكمة.
من المنطلق أعلاه، يلفت انتباهي دومًا هذا الوزن المُقفى بحكمته إلى مدى ارتباطه بنظريات الإدارة والتَّنمية الذاتيَّة وما يصاحبها من دورات وحلقات عمل احتلت «الترند» في العالم العربي، وجُلها نظريات واقتباسات من كتُب ونظريات غربيَّة، متناسين أو غافلين، أو لِنقُل جاهلين بمكوِّنات ودرر الشعر العربي، فإنَّ المتأمل في ديوان العرب يجد أنَّ جذور هذه العلوم حاضرة منذ مئات السِّنين. الفارق الوحيد أنَّ الغرب قدَّمها بلُغة الأبحاث والرسوم البيانيَّة، فيما قدَّمها العرب بلُغة الشعر، وللأسف تأخر روَّاد الإدارة العرب في ترجمتها لدورات أكاديميَّة.
لمزيدٍ من التعمق ولإسقاط الأمثلة، ففي مجال القيادة والَّتي تقوم على أنَّ القائد لا يوجّه طاقمه بالكلمات بقدر ما يُلهمهم بأفعاله وسلوكه؛ لِكَيْ يكُونَ ملهمًا وقدوة للفريق والطاقم، نجد الشاعر العربي يقول:
فَتَشَبّهوا إِن لَم تكُونُوا مِثلَهُم
إِنَّ التَّشَبّه بِالكِرامِ فَلاحُ
فالقائد الناجح لا يكتفي بالإعجاب بالفضائل، بل يمارسها حتَّى تصبح جزءًا منه. أمَّا عنترة بن شداد من جهته فرسم ملامح القائد العظيم القادر على ضبط نفسه وتجاوز الضغائن، فقال:
لا يحملُ الحقدَ من تعلو به الرتبُ.. ولا ينالُ العُلا من طبعه الغضبُ.
أمَّا في مجال الذكاء العاطفي والَّذي ظهر في التسعينيات من القرن الماضي، والَّذي أكَّد أنَّ النجاح في الحياة والعمل يرتبط بقدرة الفرد على فَهْم مشاعره وضبطها وإدارة علاقاته. لكنَّ الشعر العربي سبق إلى هذا المعنى حين شبَّه القلوب بالزجاج في صورة شعريَّة بليغة تعبِّر عن هشاشة العلاقات وأهميَّة الاعتناء بها:
إنَّ القلوبَ إذا تنافرَ ودُّها.. مثلُ الزجاجةِ كسرُها لا يجبرُ.
من جانبه يُضيف أبو تمام عن قِيمة الحِلم (في اختصار واضح لجميع نظريات إدارة الغضب والتواصل الذَّكي مع الآخرين وإدارة العملاء):
من لي بإنسان إذا أغضبتُه.. وجهلتُ كان الحِلمُ ردَّ جوابِه.
وكمثال آخر، برنامج إدارة العمل الجماعي ونظريات تكوين فِرق العمل، نجد العرب قد لخَّصوها مُجملة لتؤكد أنَّ قوَّة الجماعة في وحدتها وتخيلوا، في بيت شعري واحد:
تأبى الرِّماحُ إذا اجتمعنَ تكسُّرًا.. وإذا افترقنَ تكسَّرتْ آحادا.
وفي مجال الفشل طريق النجاح الَّذي تتبناه مدارس ريادة الأعمال، نجد الشعر العربي يؤكد أنَّ الصبر والإصرار يفتحان الأبواب المغلقة:
أخلِقْ بذي الصبر أن يحظى بحاجتِه.. ومدمنِ القرع للأبوابِ أن يلجا.
وفي مجال التفكير الإيجابي الَّذي تتناوله كتُب التَّنمية ومهارات الحياة، قدَّم إيليا أبو ماضي دعوة خالدة إلى مواجهة الصعاب بالابتسامة:
قال: السماءُ كئيبةٌ! وتجهّمَا.. قلتُ: ابتسمْ يكفي التجهمُ في السما!
هذه الأبيات دورة كاملة في صناعة التفاؤل، من جانبه يؤكد أحمد شوقي أنَّ الأحلام لا تتحقق بالتمني، بل بالسعي والعمل:
وما نيلُ المطالبِ بالتمنِّي.. ولكن تؤخذُ الدنيا غلابا.
ويعزِّز الإمام الشافعي معنى تطوير الذَّات حين شبَّه الإنسان بالماء الَّذي يفسد إذا توقف، فقال:
إني رأيتُ ركودَ الماء يُفسدهُ.. إن ساحَ طابَ وإن لم يجرِ لم يطبِ.
ما ورد أعلاه من إسقاط الأبيات الشعريَّة، هو الروح الَّتي تقوم عليها كُلُّ برامج التَّنمية الذاتيَّة، ويأتي أبو القاسم الشابي في قصيدته الشهيرة «إرادة الحياة» لِيضيفَ بُعدًا آخر، حيثُ يجعل الطموح وركوب المخاطر أساسًا للوجود:
أبارك في الناس أهلَ الطموحِ.. ومن يستلذُّ ركوبَ الخطرْ.
وفي السياق نفسه، يردِّد الشعر العربي مثالًا خالدًا في الاعتماد على النفس وصناعة الذَّات، حيثُ قيل:
نَفْسُ عِصَامٍ سَوَّدَتْ عِصَامَا.. وَعَلَّمَتْهُ الْكَرَّ وَالإِقْدَامَا
هكذا نرى أنَّ الشعراء العرب سبقوا علماء الإدارة في صياغة نظريات تتعلق بالطموح، والقيادة، والذَّكاء العاطفي، والعمل الجماعي، والتفاؤل. الفارق أنَّهم صاغوها بلُغة القلب الَّتي تخاطب المشاعر وتحرك العزائم، فما قاله ماسلو في الهرم، وجولمان في الذَّكاء العاطفي، وكوفي في المكسب المشترك، قد سبقهم إليه المتنبي والشافعي والشابي وزهير وأبو تمام وغيرهم. إنَّ الشعر العربي ـ عزيزي القارئ ـ مدرسة قياديَّة متكاملة، وضعت الإنسان في مركزها عقلًا وعاطفة، وما طُرح أعلاه ليس دعوة إلى تجاهل العلوم الغربيَّة، بل دعوة إلى قراءتها بوعي ومقارنتها بتراثنا الغني، فنحن لا ننبذها، بل نستنير بها ونفندها ونوازنها بما لدينا من ذخائر فكريَّة، وليس قولي أبلغ من قول الشاعر العُماني أبي مسلم البهلاني الَّذي حثَّ على طلب العِلم، فقال:
تطلع لنور العلم واطلب مشمرا.. فمن لم يكن بالعلم في الناس مبصرا
المنتصر بن زهران الرقيشي
كاتب عماني ـ الاتصالات الدولية والعلوم السياســـــية
مدرب متعاون في تنمية مهارات المدربين (TOT)
mumtaserzr@