يواجه رئيس الحكومة البريطانيَّة كيير ستارمر تحدِّيات مختلفة بعد نَحْوَ عام فقط في السلطة إثر الفوز الكاسح لحزب العمال في انتخابات العام الماضي. ورغم أنَّ المعارضة التقليديَّة المتمثلة في حزب المحافظين المنافس تبدو في حالة من الضعف الشديد، إلَّا أنَّ التهديد من صعود اليمين المتطرف المتمثل في حزب نايجل فاراج، إصلاح بريطانيا، ينذر بخسارة العمال الانتخابات لصالحه إذا أُجريت الآن حسبما ما تشير استطلاعات الرأي. صحيح أنَّ رفع اليمين المتطرف شعارات مسألة الهجرة هو التحدي الأكبر الَّذي يمثِّله، لكنَّ المشكلة أنَّ حزب فاراج يزايد على ستارمر في أنَّه سيعمل لصالح الطبقة العاملة البريطانيَّة. وهذا تحدٍّ خطير للحزب الحاكم الَّذي غيَّر توجُّهاته منذ زعامة توني بلير منتصف تسعينيات القرن الماضي. ويستمع ستارمر لنصائح بلير، كما أنَّه أحاط نفسه بما يسمون «البليريين» في حزب العمال. وأدَّى ذلك بالطبع إلى تآكل تأييد القاعدة الانتخابيَّة التقليديَّة للحزب من نقابات العمال وشرائح الطبقة الوسطى المختلفة للحزب الَّذي يفترض ـ على الأقل من اسمه ـ أنَّه يمثِّل مصالح العمال والموظفين.
حتَّى التغيير الوزاري الأخير الَّذي أجراه ستارمر على حكومته بعد استقالة نائبة رئيس الوزراء أنجيلا راينر شهد تصعيدًا لافتًا لجماعة بلير على حساب الَّذين يؤيدهم رجال النقابات العماليَّة. وهذا هو التحدي الثاني الأهم الَّذي يواجه رئيس الحكومة البريطانيَّة بعد نتائج استطلاعات الرأي الَّتي تعطي اليمين المتطرف نسبة أعلى من قَبول الناخبين عن حزب العمال. أمَّا التحدي الثالث فيتثمل في الوضع الاقتصادي المتردي وتدهور أحوال المعيشة لأغلب البريطانيين. ومن المتوقع أن يؤدي بيان ميزانيَّة الخريف الَّذي ستعلنه وزيرة الخزانة راتشيل ريفز في نوفمبر القادم إلى مزيد من ردود الفعل السلبيَّة بسبب ما يتردد من أنَّ الميزانيَّة الجديدة ستتضمن فرض المزيد من الضرائب وتقليص الرعاية لكبار السِّن والمحتاجين والضغط على معاشات المتقاعدين، فضلًا عن احتمال زيادة العبء الضريبي على دخول العاملين، سواء بزيادة نسبة ضريبة القِيمة المضافة أو حتَّى رفع الضريبة على الدخل وإن بشكل غير مباشر. تثير معضلة ستارمر الثلاثيَّة تلك مخاوف من ألَّا يكمل رئيس الوزراء البريطاني مدَّة حكمه حتَّى عام 2028. بل إنَّ بعض المعلقين بدأوا يتحدثون عن «نصف المدة»، وأنَّ أمام ستارمر عامًا واحدًا إضافيًّا ليثبت أنَّه قادر على قيادة حزبه وبريطانيا.
ليس بالضرورة أن يدعو كيير ستارمر إلى انتخابات مبكرة، ولكن إذا تعرض حزب العمال لما شهده حزب المحافظين في سنوات حكمه الأخيرة من تمرد وخلافات قويَّة، فقد يطرح نواب الحزب الحاكم في البرلمان تصويتًا بالثقة على زعيمهم ورئيس الحكومة، ما يعني أنَّ خلَفه قد يضطر إلى إجراء انتخابات مبكرة سيخسرها العمال على الأرجح. وجاء المؤتمر السّنوي للحزب الحاكم نهاية سبتمبر مؤشرًا على بدايات انشقاق وخلافات عميقة بَيْنَ كوادره رُبَّما لا يستطيع ستارمر احتواءها. صحيح أنَّ أيَّ حكومة يُمكِن أن تواجه تحدِّيات رُبَّما حتَّى أكبر من تلك الَّتي تواجه الحكومة البريطانيَّة الحاليَّة. إنَّما المُشْكلة أنَّ كيير ستارمر لم يثبت أنَّه قادر على مواجهة التحدِّيات، ويتحدث مَن يعرفونه جيدًا على أنَّه «موظف أكثر منه سياسي»، وبالتالي قد يصعب عليه أن ينقذ حكومته ولا حتَّى كما فعل رئيس الوزراء من حزب المحافظين بوريس جونسون. وتلك هي الأزمة الحقيقيَّة الَّتي تواجه السياسة في بريطانيا، ورُبَّما تسهم في صعود سريع وقوي لليمين المتطرف بما يعنيه من سياسات شعبويَّة تقترب من حدِّ العنصريَّة.
كُلَّما شعر ستارمر بتهديد اليمين المتطرف يدفع بحكومته وحزبه نَحْوَ اليمين أكثر، حتَّى أنَّ سياساته تبدو وكأنَّها تتبنى ما ينادي به حزب اليمين المتشدد في محاولة لتقليص الفارق الانتخابي مع حزب إصلاح بريطانيا. ومنذ تولِّيه السُّلطة في يوليو العام الماضي لا يعتمد ستارمر على مجموعة بلير في حزب العمال فحسب، بل إنَّه يستشير توني بلير في كثير من الأمور. ومهما كان الأمر، فإنَّ النصيحة من شخص خارج السُّلطة ليست بالضرورة هي الأنسب والأفضل، بل قد تحمل في أغلب الأحيان معضلة المستشار الَّذي ينصح بما لا يُمكِنه فعله، أو ما يحقق له منفعة شخصيَّة بغَضِّ النظر عن وضع مَن يقدّم له المشورة أو الصالح العام. على سبيل المثال، يعتزم كيير ستارمر فرض «هُوِيَّة رقميَّة» على المواطنين البريطانيين، وهو ما سبق أن حاولته حكومات للمحافظين ووجدت معارضة قويَّة من الشَّعب؛ باعتبار ذلك تعدِّيًا على الخصوصيَّة وحقوق الإنسان الَّتي تكفلها القوانين الأساسيَّة. وفي فترة حكومة بلير العماليَّة حاولت أيضًا تطبيق إصدار الهُوِيَّة الشخصيَّة، لكن المعارضة القويَّة أجبرت توني بلير على التراجع عن مشروعه. من غير المستبعد أن تكُونَ نصيحة بلير لستارمر وراء طرح الأمر مرة أخرى، وهذه المرة هُوِيَّة رقميَّة. خصوصًا وأنَّ ابن توني بلير يملك شركة تكنولوجيَّة ستحصل على عقد إصدار الهُوِيَّات بكلفة مئة مليون جنيه إسترليني. ودون الإيحاء بشبهة فساد أو غيره، إلَّا أنَّ بلير بالتأكيد يريد أن يرى مشروعه الَّذي فشل في تنفيذه قبل ثلاثة عقود ينفذه ستارمر. رُبَّما يبدو الأمر مُشْكلة لبريطانيا والبريطانيين فقط، إلَّا أنَّ مثل هذا التدهور في بريطانيا واحتمالات صعود اليمين المتطرف سيتردد صداها في أوروبا كلها ورُبَّما ما وراءها.
د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري