الخميس 02 أكتوبر 2025 م - 9 ربيع الثاني 1447 هـ
أخبار عاجلة

في العمق : بين الحوكمة والهوية التدريبية هل سينهي قرار وزارة العمل فوضى المشهد التدريبي؟

في العمق : بين الحوكمة والهوية التدريبية هل سينهي قرار وزارة العمل فوضى المشهد التدريبي؟
الاثنين - 29 سبتمبر 2025 01:08 م

د.رجب بن علي العويسي

50


قَبل عَقد من الآن كنَّا قد طرحنا في هذه الجريدة الغرَّاء مقالًا بعنوان «موضة التدريب تساؤلات مطروحة»، تناولنا فيه جملة المخاوف المستقبليَّة في ظل الصورة المشوهة الَّتي قُدّم بها التدريب في تلك الفترة، في ظل ازدياد عدد الحاصلين على شهادة إعداد مدرب وما تبعه من انتشار مراكز الاستشارات التدريبيَّة والمدربين المستقلين، وما أثارته نوعيَّة البرامج التدريبيَّة المقدمة وأعداد المتعاطين معها ممن يحملون نسقًا فكريًّا واحدًا يَدُوْر أغلبه في فلك تنمية الذَّات والبرمجة اللُّغويَّة العصبيَّة والتدريب الوقتي القصير في ظل اتجاه المؤسَّسات إلى الاهتمام بهذه البرامج وإلحاق كادرها بها، خصوصًا مع التوجُّه نَحْوَ تقليل عدد البرامج التدريبيَّة الخارجيَّة وإيقاف أكثرها كحالة استلطاف وقتيَّة لمواجهة ردود فعل الموظفين حَوْلَ انحسار البرامج التدريبيَّة وغلبه جانب التدريب الوقتي القصير على معظم خطط الإنماء المهني للمؤسَّسات في القِطاع الحكومي. في وقت تظهر فيه مؤشرات الأداء وجود تراجع في أثر التدريب ونواتجه على منظومة الأداء المؤسَّسي ذاتها كنتاج لفجوة التباين الحاصلة بَيْنَ نوعيَّة البرامج المقدمة والاحتياج الفعلي لها من الموظف وقدرتها على صناعة الفارق في الأداء المؤسَّسي نفسه.

وكنَّا قد أشرنا في مقال آخر بعنوان «التدريب والبحث عن الهُوِيَّة» إلى أنّ طرح التدريب في السياق الوطني، ينبغي أن يتسع ليشمل التفكير في مأسسة قِطاع التدريب أو على الأقل وجود إطار مؤسَّسي أو تقسيم يرعى التدريب ويحافظ على هُوِيَّته ويترجم مبادئه في ظل تشريعات وأنظمة تضمن للممارسين له فرص الحصول على الاعتراف الوطني والدولي، وحقوق امتياز لبراءات اختراع في برامج التدريب ونماذجه التطبيقيَّة، وبرامج عالميَّة في إعداد المدربين، ومنح رخص تدريبيَّة تمارس هذه المهنة عن جدارة واستحقاق وفق معايير واشتراطات تتقاسم المشترك التدريبي الإنساني العالمي، بما يضمن وضوح هُوِيَّة التدريب وقدرتها على قراءة الحالة العُمانيَّة بشكل أكثر احترافيَّة، بحيثُ تكُونُ له هُوِيَّته الوطنيَّة وصبغته ومدركاته الَّتي تنتجها ثقافة عُمان المعتدلة المتناغمة مع التطوير والتجديد الَّذي يشهده العالم، ومراعية طبيعة الاحتياج الوطني في معالجة الإخفاق في السلوك أو ترقية مسارات الوعي، ليتحول التدريب من سلوك استهلاكي يستنزف الموارد إلى استثمار وطني، يعيش خلاله الفرد عالم الإنتاجيَّة والعطاء والذَّوق والجَمال والحُب والوعي، ويصنع للمؤسَّسات فرصًا أكبر للابتكار والتطوير.

هذه الصورة من المخاوف في تراجع المشهد التدريبي الَّتي أشرنا إليه في تلك الفترة باتت حاضرة اليوم في ظل التوجُّه نَحْوَ إعادة صناعة مسار التدريب الوطني وتعظيم القيمة المضافة له، بحيثُ يتناغم مع أبجديَّات رؤية «عُمان 2040» في بناء الإنسان العُماني، والمسار الَّذي يقدمه التدريب في تربية الشخصيَّة العُمانيَّة وتعزيز حضورها في تنفيذ مستهدفات الرؤية، وفي الوقت نفسه نقل التدريب من العشوائيَّة والارتجاليَّة والشعوذة والدجل التدريبي والقالب المزيف الَّذي وجّه إليه، إلى قدرته على سبر أعماق التنمية وإعادة إنتاج المورد البشري بطريقة تنمويَّة ذكيَّة، وبالتالي الخروج من تلك الصورة المشوهة الَّتي أدخلت التدريب في قضايا وأحداث غير صحيَّة سلبت روحه وخصوصيَّته، وأنتجت واقعًا تدريبيًّا يعيش الخلل والتراكمات والأفكار السطحيَّة والمعتقدات الفكريَّة القائمة على الأنا والسلطويَّة والفردانيَّة ـ وكأنَّ المراد من التدريب تغيير الكون بأكمله وأنَّ المدرب العصا السحريَّة في توجيه بوصلة العالم ـ. لذلك كان المشهد التدريبي منذ دخول فكرة البرمجة اللُّغويَّة العصبيَّة وبرامج تنمية الذَّات وغيرها بات يعيش حالة من التشويش والتشويه وعدم الثبات وضعف تنوع البدائل وغياب سيناريوهات العمل المتاحة، حتَّى أنتجت هذه المعطيات عملًا مرتجلًا ومبادرات فرديَّة غير مكتملة تفتقد للاستدامة والعمق التدريبي والاحتواء والرصانة، بما انعكس على جودة المنتج التدريبي الَّذي يتصف في أكثر حالاته بالسطحيَّة وانتزاع سلطة التأثير منه، وافتقاره لفلسفة الدخول في العمق الإنساني، فأصبح في حلقة مفرغة أعطت مساحة أوسع ومبررات أكبر لظهور موضة التدريب كمسار شخصي أقرب ما يكُونُ فيها التدريب أبواقًا وظواهر صوتيَّة لتحقيق الكسب المادي منه.

على أنَّ التحدِّيات الَّتي واجهت التدريب في تلك الفترة وحالة التراجع الَّتي عاشها المسار التدريبي، سواء بدخول موضة التدريب وفوضويَّة التكراريَّة فيه، باتجاهه نَحْوَ قالب تدريبي واحد يتناقله القائمون على التدريب الَّذين نشط عددهم في تلك الفترة وزيادة عدد مَن يحملون هذه المسميات التدريبيَّة (مدرب معتمد من....) وانتشار المدربين من المُجتمع الوظيفي بالمؤسَّسات؛ أو تأثير تراكمات الحالة الاقتصاديَّة العالميَّة وبعدها جائحة كورونا «كوفيد19» الَّتي وضعت المشهد التدريبي أمام قرارات صادمة أدَّت إلى خفض الموازنات الماليَّة الممنوحة للتدريب، إلَّا أنَّ التحدِّي الأكبر في تقديرنا الشخصي لا يكمن في أعداد المدربين لقناعتنا بأنَّ زيادة عدد المدربين يفترض أن يكُونَ حالة صحيَّة تؤسِّس لزيادة الوعي والمعرفة، خصوصًا عندما تأتي في إطار التسويق الذَّاتي للخبرة الوطنيَّة، والاستفادة من الكفاءة العُمانيَّة في رفد سوق التدريب بالكادر الوطني؛ إلَّا أنَّ المشكلة تكمن في فوضويَّة التدريب وغياب الهُوِيَّة التدريبيَّة، وانتفاء وجود معايير واضحة معلنة تعكس الهُوِيَّة التدريبيَّة العُمانيَّة وتؤسِّس لها في واقع حياة المواطن والمؤسَّسات بحيثُ تضبط مسار التدريب وتؤطره بما يتوافق مع الحالة العُمانيَّة وأولويَّاتها، بالإضافة إلى القصور في قواعد البيانات الوطنيَّة المتكاملة حَوْلَ المدربين العُمانيين واختصاصاتهم والنسق التدريبي الَّذي يعملون فيه، ومدى توافر المعلومات المساندة للبحث في هذا المجال بشكل يعطي صورة واضحة حَوْلَ جوانب القوَّة فيه وحالات الإخفاق الَّتي يعيشها التدريب بما يقرأ واقعه بعمق ويشخّص نواتجه بمهنيَّة ويؤسِّس برامجه في ظل احتياج.

من هنا أكدنا على ضرورة استحضار مسألة الضبطيَّة في مفاهيم التدريب واستراتيجيَّاته وأنشطته وبرامجه ومحتواه، والتوجُّهات الَّتي ينطلق منها، والمعطيات الَّتي يحتكم إليها، عَبْرَ توافر أدوات القياس وأنماط المعالجة والمراجعة المستمرة له، بمختلف أنماطه على مستوى الحياة الشخصيَّة والسلوك العام أو على مستوى الوظائف المهنيَّة والمؤسَّسات، وتقليل الفاقد التدريبي أو الترهل الَّذي لازم بعض مسارات عمله، وتأكيد البحث في هُوِيَّة التدريب ذاته، وطبيعة السلوك المرغوب، وحجم التحول المستهدف، وتوجيهه نَحْوَ ضبط كُلِّ المتغيرات المتصلة بسلوك الإنسان وقناعاته، عَبْرَ رصد واقع المهارة التدريبيَّة وطبيعة الاحتياج إليها، آخذة في الاعتبار نوعيَّة المفردات المعاصرة الَّتي يحتاجها المُجتمع في سبيل اندماجه في عالم سريع التغير كمعايير لقياس الوعي والمهنيَّة والتقدم في عالمه، بما يحفظ هُوِيَّته وخصوصيَّته، باعتبارها موجّهات يُمكِن معالجتها وإدارتها وإعادة صياغتها بشكل أفضل، عَبْرَ إيجاد أُطر وطنيَّة مقنّنة تضع التدريب كاستراتيجيَّة مستدامة، تتحول إلى استثمار في الإنسان وتعميق روح الإنتاجيَّة وثقافتها في سلوكه اليومي، وأن يكُونَ التدريب قيمة مضافة لهندسة التنمية البشريَّة وصيانة المنجز الوطني وترقيته، لا أن يُتعامل معه كثورة دعائيَّة وظاهرة صوتيَّة تنتهي بوضع السلوك التدريبي اللحظي في مستوى المثاليَّة والمعرفة المتكاملة، مع قلة التأثير وغياب أثره في سلوك الفرد أو التناغم مع طبيعة المسؤوليَّة الحياتيَّة والمهنيَّة.

أخيرًا، يأتي التعميم الَّذي أصدرته وزارة العمل مشكورة في سبتمبر لعام 2025 بشأن «مزاولة نشاط التدريب الخاص في سلطنة عُمان بكافَّة أنواعه وأنماطه»؛ بهدف تنظيم سوق التدريب بما يضمن الجوة والالتزام بالمعايير، رغم أنَّه جاء متأخرًا كثيرًا، إلَّا أنَّه يحقق الطموح المنتظر، ويمثِّل رؤية صحيَّة نوعيَّة في الاتجاه الصحيح، وتحوُّلًا نوعيًّا في مسيرة التدريب، وسيسهم في تقديرنا الشخصي في إعادة حوكمة منظومة التدريب وتقنين وضبط المسار التدريبي، في الحدِّ من الترهلات والتراكمات وموضة التدريب الَّتي أضاعت كفاءة التدريب وحقوق المتدربين، وأسهمت في خلق نمط تدريبي هش أقرب إلى الدجل والشعوذة وتغييب الوعي، وغير قادر على بناء القدرات الوطنيَّة، ولا يوفِّر المهارة الَّتي تخدم مستهدفات رؤية عُمان من جهة أو كومة التحدِّيات الَّتي يواجهها المواطن في عالم مشوه، عليه سيشكل هذا التوجُّه فرصة وطنيَّة لمراجعة السياسات والبرامج والخطط التدريبيَّة، وتعظيم حضور المفاهيم المعاصرة والمفردات الَّتي باتت تشكِّل صورة المستقبل كالذكاء الاصطناعي وغيره بطريقة آمِنة وحافظة لفكر الإنسان ومعتقداته وفق معايير وضوابط ومحكّات ومنهجيَّات، تبتعد عن الصور المزيَّفة والأفكار السطحيَّة والسطوة الماليَّة والبحث عن الشهرة التدريبيَّة. إنَّها الطريق لصناعة نموذج وطني محكم ومقنن وعصري للتدريب يراعي الحالة العُمانيَّة ويؤسِّس للاحترافيَّة المضبوطة في صناعة المحتوى التدريبي، وإعداد المدربين وإعادة تقييم المنتج التدريبي في سلطنة عُمان.

د.رجب بن علي العويسي

[email protected]