الأربعاء 01 أكتوبر 2025 م - 8 ربيع الثاني 1447 هـ
أخبار عاجلة

مقاعد فارغة فـي وجه الأكاذيب

مقاعد فارغة فـي وجه الأكاذيب
الاثنين - 29 سبتمبر 2025 01:01 م

إبراهيم بدوي

30


من باب الاعتراف بالحق، أعترف أنَّني كنتُ سوداويًّا جدًّا في مقالي الماضي، حيثُ إنَّني بالغتُ في التشاؤم حين قللت كثيرًا من تأثير الاعترافات الدوليَّة بالدَّولة الفلسطينيَّة، واعتبرتُ أنَّها لا تتجاوز كونها خطابات سياسيَّة للاستهلاك الإعلامي. لكن ما جرى في قاعة الأُمم المتحدة غيَّر شيئًا في داخلي، فمشهد الوفود وهي تغادر تباعًا أثناء كلمة المُجرِم نتنياهو لم يكُنْ حدثًا عاديًّا، فهي لحظة أشعلت في صدري أملًا جديدًا، أملًا يهمس أنَّ هناك تحولًا يحدث بالفعل، وأنَّ دماء الشهداء الَّتي أغرقت أرض غزَّة لم تذهب سدى، لقد كنتُ أراقب المقاعد الفارغة كأنَّها تنطق، كُلُّ مقعد منها يعلن بصمته أنَّ العالم بدأ يشيح بوجهه عن الأكاذيب الصهيونيَّة. وأبرز ما لفَتَ نظري هو أنَّ الموقف لم يأتِ نتيجة ضغط سياسي مباشر أو مساومة دبلوماسيَّة، وإنَّما جاء عفويًّا في لحظة خطاب أمام العالم كُلِّه، هو ما يعني وجود قناعة بدأت تتشكل، وأنَّ الرواية الصهيونيَّة الَّتي طالما استقوت بالمنابر الدوليَّة تفقد اليوم قدرتها على الكذب والخداع، فقد كانت لحظة الخروج المتتابع أشبَه باستفتاء عالمي صامت، استفتاء على الحقيقة، ورفضًا علنيًّا للكذب مهما تجمل بالشعارات، وفي تلك الصورة وجدت بذرة أمل مختلفة تقول إنَّ العالم ببطء شديد بدأ يفيق من غيبوبة طويلة، وإنَّ فلسطين ـ بكُلِّ ما تحمله من دم وركام ـ عادت إلى الوعي الجمعي كقضيَّة عادلة لا يُمكِن إنكارها.

وبرغم أنَّ التجربة الأمميَّة لم تشهد هذه المشاهد لأول مرة، فقد سبق أن انسحبت وفود في العام الماضي اعتراضًا على سياسات نتنياهو وحكومته الإرهابيَّة، إلَّا أنَّ ما وقع هذا العام كان أوسع وأكثر وضوحًا، فخروج هذا العدد الكبير من الوفود حمل رسالة أعمق بأنَّ الرواية الصهيونيَّة بدأت تفقد وزنها، وأنَّ العالم لم يَعُد يملك ترف الاستماع لخطاب يبرِّر الدم والدمار، وبَيْنَما كان نتنياهو يتحدث أمام مقاعد تتسع فراغاتها، كان الفلسطيني في غزَّة يرسم لوحة أخرى من الحضور، حضور يكتب بالدم لا بالكلمات، فتحْتَ القنابل الَّتي حوَّلت المُدن إلى أطلال، وتحت الإرهاب الَّذي يطارد الأطفال ويمنعهم من مدارسهم، ويطارد النساء والشيوخ في مخيماتهم، ظلَّ الفلسطيني يرفع راية الصمود، لِتكُونَ مفارقة صارخة، بَيْنَ خطاب القوَّة الَّذي يتهاوى في قاعة أمميَّة، يقابله على الأرض خطاب أكثر صدقًا، صاغه شَعب أعزل لكنَّه متمسك بحقِّه في الحياة والبقاء.

إنَّ الكيان الَّذي لطالما اعتمد على دعم القوى الكبرى ومساندتها، ظهر اليوم كأنَّه يسير في طريق يتكشف فيه غياب الظهير الَّذي يحميه من الحساب ويمنع مساءلته. فمشهد المقاعد الفارغة في الأُمم المتحدة كان انعكاسًا لتحوُّل تدريجي في المزاج العالمي، وضغوط الشعوب، الَّتي خرجت في الشوارع وملأت الساحات تضامنًا مع غزَّة، بدأت تؤثر ولو ببطء على صنَّاع القرار في العواصم الكبرى، لأول مرة منذ عقود، لم يَعُدْ دعم هذا الكيان محورًا انتخابيًّا مضمونًا كما كان في السابق، وتحوَّل إلى عبء سياسي يحرج الحكومات ويضعها في مواجهة ناخبيها. لقد اتسعت العزلة علنًا في قاعة الأمم المتحدة، وكشفت أنَّ الكفة بدأت تميل تدريجيًّا نَحْوَ الاعتدال، وأنَّ احتكار الرواية الصهيونيَّة للمنابر الدوليَّة يتراجع أمام رواية أكثر صدقًا وأقرب إلى ضمير الإنسانيَّة، وفي هذا التحول البطيء تكمن بذرة أمل بأنَّ زمن الحماية المطلقة بدأ يتصدع، وأنَّ العدالة تقترب من أن تجد طريقها بعد طول انتظار.

صحيح أنَّ الطريق لا يزال طويلًا، وأنَّ اللوبيات الصهيونيَّة ما زالت تملك نفوذًا ماليًّا وإعلاميًّا وتؤثر في دوائر صنع القرار، غير أنَّ ما حدَث في قاعة الأمم المتحدة يمثِّل نقطة ضوء في نهاية نفق مظلم نسير فيه منذ عقود. فالانسحاب الجماعي من خطاب نتنياهو كشف أنَّ العزلة الدوليَّة بدأت تتحول من كلمات عابرة إلى مواقف ملموسة، وأنَّ الرواية الفلسطينيَّة استطاعت أن تفرض حضورها على مسرح العالم، ورغم أنَّ الطريق محفوف بالعقبات، فإنَّ اللحظة أثبتت أنَّ الدم لا يضيع هدرًا، وأنَّ صمود الفلسطينيين يثمر أخيرًا في وجدان العالم، ومع ذلك يظل السؤال ويجعلني حائرًا وهو: أليس نتنياهو نفسه مطلوبًا أمام القضاء الدولي بِتُهم الإبادة وجرائم الحرب؟

إبراهيم بدوي

[email protected]