تظهر مدينة صحار الصناعيَّة أنَّ التخطيط الاستراتيجي السَّليم إذا ما ارتبط بموقع جغرافي ذكي وإرادة اقتصاديَّة واضحة، فإنَّه يُحقِّق نجاحًا واضحًا. فاختيار هذا الموقع القريب من ميناء صحار والموانئ الإقليميَّة جاء ضِمن رؤية أوسع تجعل من المنطقة مركزًا صناعيًّا قادرًا على خدمة سلاسل التوريد الإقليميَّة والدوليَّة معًا، بالإضافة إلى البنية الأساسيَّة المتكاملة من أراضٍ مجهَّزة وخدمات متاحة، إلى جانب الحوافز الاستثماريَّة من إعفاءات ضريبيَّة وجمركيَّة، خلقت إطارًا تنافسيًّا يجذب المستثمر الباحث عن بيئة مستقرة ومَرِنة في آنٍ واحد، ومع تزايد مصانع الشّق العلوي في مجالات المعادن والبتروكيماويَّات والبلاستيك، بدأت المدينة ترسم ملامح منظومة صناعيَّة متكاملة، لا تقتصر على استقبال استثمارات جديدة فحسب، وإنَّما تبني قاعدة إنتاجيَّة ترتبط مباشرة بمسار التنويع الاقتصادي الَّذي ترسمه رؤية «عُمان 2040». هذه الانطلاقة توضح أنَّ الرهان على المناطق الصناعيَّة هو رهان على المستقبل الاقتصادي لعُمان، حيثُ يتحول الموقع إلى قيمة، والموارد إلى استثمار، والطموح إلى واقع ملموس.
إذا كانت المرحلة الأولى من صحار الصناعيَّة قد أثبتت قدرتها على جذب استثمارات في القِطاعات الأساسيَّة كالحديد والألمنيوم والبتروكيماويَّات، فإنَّ الخطوة الأكثر أهميَّة اليوم تكمن في الانتقال إلى الصناعات التحويليَّة الَّتي ترفع القيمة المضافة، وتحوّل المواد الأوليَّة إلى منتجات متقدمة تدخل الأسواق العالميَّة بمعايير تنافسيَّة. والخطَّة الجارية لتأسيس تجمع اقتصادي متكامل لصناعات الألمنيوم التحويليَّة تُعَدُّ تحوُّلًا استراتيجيًّا يضع المدينة في موقع مختلف تمامًا على خريطة الصناعة العُمانيَّة. فهذا النوع من العناقيد الصناعيَّة يخلق تشابكات بَيْنَ الشركات المنتجة والمستهلكة، ويوفِّر فرصًا حقيقيَّة للشركات الصغيرة والمتوسطة كَيْ تندمج في سلاسل التوريد، وتشارك في إنتاج مكوِّنات ذات تقنيَّة أعلى، والأهم أنَّ هذا التحوُّل يُعزِّز قدرة عُمان على الدخول في الصناعات الخضراء مستقبلًا، خصوصًا مع التوجُّه نَحْوَ استخدام الطاقة المُتجدِّدة والهيدروجين الأخضر في عمليَّات الإنتاج، وهو ما يمنح صحار الصناعيَّة ميزة تنافسيَّة إضافيَّة في أسواق باتت تقيّم المنتجات وفْقَ بصمتها الكربونيَّة بقدر ما تقيِّمها بجودتها وسعرها.
ورغم هذا الزخم، فإنَّ ما يُميِّز صحار الصناعيَّة أنَّ التحدِّيات الَّتي تواجهها تقابل بخطط واضحة وإجراءات تنفيذيَّة جادَّة، الأمر الَّذي يَحُول دُونَ تحوُّلها إلى عوائق مزمنة. فملف الكفاءات الوطنيَّة مثلًا أصبح في صدارة اهتمامات الجهات المسؤولة، من خلال برامج تدريبيَّة وشراكات مع المؤسَّسات التعليميَّة لتأهيل الشَّباب لاحتياجات الصناعات المتقدمة. وفي ما يتعلق بالطاقة والمياه، يجري العمل على إدماج حلول متجدِّدة وتوسيع القدرات بما يَضْمن استدامة الإمدادات وتنافسيَّة الأسعار، وهو ما يتماشى مع التوجُّه الوطني لخفض الانبعاثات الكربونيَّة. كما أنَّ تسريع دَوْرة الترخيص وتبسيط الإجراءات باتَ جزءًا من سياسة معلنة لتعزيز ثقة المستثمرين وتقصير زمن التأسيس، بَيْنَما تسعى الإدارة إلى مراجعة ملف الأراضي الممنوحة لضمان استغلالها بكفاءة وتحويلها إلى قيمة مضافة. هذه الجهود تعكس أنَّ إدارة المدينة لا تكتفي برصد النجاحات، وإنَّما تتحرك باستباقيَّة لمعالجة مَواطن الضعف، وهو ما يمنح صحار الصناعيَّة قوَّة إضافيَّة ويجعلها مؤهلة للانتقال بثبات إلى مرحلة أكثر تأثيرًا على الخريطة الاقتصاديَّة الإقليميَّة. إنَّ تجربة صحار الصناعيَّة تقدِّم صورة مصغرة عن مسار عُمان الاقتصادي في مرحلة ما بعد النفط، حيثُ لا تكفي الأرقام ولا حجم الاستثمارات وحدها لتأكيد النجاح، وإنَّما تتحدد القيمة الحقيقيَّة بمدى القدرة على خلق صناعات تحويليَّة، وتأهيل الكفاءات الوطنيَّة، وضمان الاستدامة البيئيَّة، وبناء منظومة حوكمة شفافة تدير الموارد بكفاءة. ومع أنَّ الطريق لا يزال مليئًا بالتحدِّيات، فإنَّ المؤشِّرات القائمة تعكس بيئة قابلة للنُّمو والتحوُّل إذا ما استُثمرت بوعي، فالموقع الاستراتيجي، والبنية الأساسيَّة، وحوافز يُمكِن أنْ تتحولَ إلى قاعدة انطلاق نَحْوَ مركز صناعي إقليمي يربط الأسواق ويصنع الفارق. فالمستقبل هنا يتوقف على التنفيذ الدقيق والمتابعة الحثيثة؛ لأنَّ المُدُن الصناعيَّة لا تُقاس بما تحويه من مساحات أو أرقام معلنة، وإنَّما بما تتركه من أثر مستدام في الاقتصاد الوطني، وما تمنحه من فرص عمل ونقل للمعرفة، وما تضيفه من ثقة في قدرة سلطنة عُمان على صياغة نموذجها الصناعي الخاص، وفي ذلك تكمن مسؤوليَّة مضاعفة، تجعل من صحار الصناعيَّة ليس مشروعًا قائمًا فحسب، بل عنوانًا لطموح أُمَّة تريد أنْ تبنيَ مستقبلها بأدواتها وبخطوات واثقة.