الاثنين 15 سبتمبر 2025 م - 22 ربيع الأول 1447 هـ
أخبار عاجلة

التحول من «المكلمة» إلى لحظة الفعل

التحول من «المكلمة» إلى لحظة الفعل
الاثنين - 15 سبتمبر 2025 01:01 م

إبراهيم بدوي


منذ عقود تتعامل قوَّة الاحتلال الصهيوني مع الصراع بسياسة فرض الأمر الواقع، متجاهلة القرارات الدوليَّة والدعوات الإقليميَّة، وصامَّة آذانها عن أيِّ مبادرة جادة لإقرار السلام، أقول هذا ردًّا على موجة التفاؤل الَّتي رافقت التصويت الكاسح في الجمعيَّة العامة للأمم المتحدة على إعلان نيويورك المتعلق بحلِّ الدولتين، فهذه المنصَّة الأمميَّة تحولت إلى مسرح خطابي، يلقي فيه البعض بيانات شجب باردة أو خطبًا منمقة، وكأنَّ الهدف غسل الأيدي من المشاركة في ما يحدث لفلسطين، ولو بالصَّمت المطبق منذ عقود، الوعي العميق بموازين القوى يفرض علينا الاعتراف بأنَّ أيَّ قرار لا يحمل صيغة تنفيذيَّة واضحة وملزمة لا يساوي الحبر الَّذي كُتب به، لذلك فإنَّ التفاعل العاطفي مع هذه القرارات ينبغي أن يتجاوز حدود التصفيق والترحيب، إلى البحث عن أدوات ضغط حقيقيَّة، فنحن اليوم أمام حكومة صهيونيَّة هي الأكثر تطرفًا ودمويَّة في تاريخ الكيان، تدعمها أكبر قوَّة دوليَّة تتحكم في السياسات الخارجيَّة وتستخدم حقَّ الفيتو لحماية الاحتلال من أيِّ قرار ملزم يخرج من مجلس الأمن.

ولا أتحدث فقط عن المنظومة الدوليَّة، لكن أيضًا عن المنظومة العربيَّة، الَّتي ما زالت تقف في خانة رد الفعل منذ عقود، فمن يتابع مسار التاريخ يلمَس التحول من شعارات حماسيَّة كـ(إلقاء الكيان في البحر) إلى شعارات برَّاقة مثل (الأرض مقابل السلام)، من دُونِ أن يواكب ذلك فعل حقيقي على الأرض، هذه التحولات لم تصنع فارقًا إلَّا في قاموس الخطابات الرسميَّة، حتَّى وصلنا إلى مرحلة فقدنا فيها بوصلتنا، وصارت ردود أفعالنا أشبَه بتمارين لُغويَّة تعيد تكرار نفس الأكليشيهات الَّتي لا تليق بحجم الفعل الإجرامي الَّذي فاض وزاد من قِبل الكيان الصهيوني الإرهابي، هذا العجز العربي والإسلامي منح الاحتلال مساحة زمنيَّة كافية ليفرض وقائع جديدة كُلَّ يوم، حتَّى باتت دماء الفلسطينيين تتحول إلى مشهد متكرر اعتاد عليه المتابع العربي وكأنَّه خبر طقس، ولا أحبُّ أن أصفَ اجتماع الدوحة بأنَّه (فرصة أخيرة)، حتَّى لا أنضم إلى القافلة ذاتها الَّتي ترفع الشعارات عند كُلِّ قمَّة ثم تعود إلى صمتها المعتاد، فانتظار موقف موحَّد من منظومة (تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتَّى) هو موقف عبثي، يشبه الخطابات الَّتي تجاوزت مرحلة المكلمة وصارت نوعًا من جَلد الذَّات الجمعي الَّذي لا يغيِّر شيئًا. إنَّ هذه الأُمَّة بحاجة إلى لحظة صدق مع نفسها، تُعيد الاعتبار للفعل لا للانفعال، وتُعيد لهذه المنطقة قدرتها على فرض معادلة جديدة توقف نزيف الدم وتستعيد شيئًا من الكرامة المهدورة.

والغريب أنَّ الأُمَّة تمتلك من القدرات ما يُمكِّنها من أن تُعيد حقوقها، وتستعيد زمام المبادرة، لكنَّها للأسف تستنزف هذه القدرات في صراعات جانبيَّة تضعف نفسها بنفسها، وكما يقولون آفة الشرق الرياسة، فكُلُّ طرف يريد أن يكُونَ صاحب الكلمة العليا ولو على حساب القضيَّة نفسها، فإذا أردنا أن يخرج اجتماع الدوحة بنتائج حقيقيَّة، فعلينا أولًا أن نمارس المصارحة والمكاشفة، وأن نُعيد إصلاح ذات البَيْن بَيْنَ دولنا، ثم نضع خطَّة عمل شاملة تتدرج من معالجة الكوارث الراهنة إلى القضاء على جذور المُشْكلة، خطَّة واضحة المدى، قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل، تقوم على ما نملكه من أدوات سياسيَّة واقتصاديَّة وإعلاميَّة، وما أكثرها حين تتوحد الإرادة، وبصدق عندها لن نكُونَ بصدد معالجة القضيَّة الفلسطينيَّة وحدها، سنفتح الباب لعلاج كُلِّ أزماتنا المزمنة الَّتي تحولت إلى أمراض وراثيَّة تنخر في الجسد العربي، مثل هذه النقلة ستكُونُ بداية حقيقيَّة لنهضة الدول والشعوب، وإعادة تعريف معنى الأمن القومي المشترك، قد يبدو الكلام رومانسيًّا أو حالِمًا للبعض، لكن الواقع يقول إنَّ هذا هو الحل العملي الوحيد القادر على تغيير المعادلة، شرط أن نتجاوز صراعنا الوراثي وأسبابه التاريخيَّة ونضع مصلحة الأُمَّة فوق كُلِّ الحسابات الضيقة.

إنَّ ما نحتاجه اليوم ليس خطابًا جديدًا بقدر ما نحتاج فعلًا جديدًا، فعلًا يترجم الدماء الَّتي سالت إلى موقف سياسي واقتصادي يردع آلة القتل، ويعيد للقضيَّة الفلسطينيَّة مكانتها كقضيَّة مركزيَّة للأُمَّة، هذه اللحظة التاريخيَّة لا تحتمل الانتظار ولا التسويف، وكُلّ يوم يمرُّ دُونَ تحرك حقيقي يعني مزيدًا من الشهداء ومزيدًا من الوقائع الَّتي يفرضها الاحتلال على الأرض. لقد أثبتتْ غزَّة أنَّ الشعوب الَّتي تذوقت طعم الحُريَّة لا تقبل العودة إلى القيد، وأنَّ الصمود مهما كان ثمنه أقلّ كلفة من الاستسلام، وما حدَث مؤخرًا من انتهاك لسيادة دولكم جميعًا، وبالتواطؤ مع مَن أوكلنا إليهم مهمَّة حمايتنا، يؤكد ما سبق أن حذرت منه. إنَّ الطموح الصهيوني لم يَعُدْ مقتصرًا على سرقة الأراضي الفلسطينيَّة، ويسعى إلى التوسع وفرض وقائع جديدة تهدِّد العواصم قَبل القرى، والحدود قَبل الخنادق. لذا فالرهان الحقيقي ليس على ما يخرج من القمم أو المنصَّات الدوليَّة، الرهان على قدرتنا كأُمَّة أن نحوِّل وحدتنا من شعار إلى أداة ضغط، ومن بيان إلى خطَّة تحرك، والتاريخ سيذكر أنَّ مَن امتلك الإرادة في هذه اللحظة صنع مستقبل المنطقة، ومن واصل الانتظار أضاع الفرصة الأخيرة لإنقاذ ما تبقَّى من كرامتنا ووجودنا.

إبراهيم بدوي

[email protected]