مما نستفيد منه من سيرة نبينا العطرة من نموذجيته التي يقطع بها حبال الشكوك عمن يوهم تجرده من اﻷسوة الحسنة لكل لبيب، أنه بغض النظر عن اصطفائه للنبوة إﻻ أنه تدرج عمليًا وفكريًا من سنه المبكر إلى السن الذي أصبح فيه قياديًا خبيرًا فصار بعدها قائدًا للبشرية، ففي المرحلة اﻷولى عمل راعيًا للغنم (وما من نبي إﻻ رعى اﻷغنام)، وهي تجارة دنيا لم يستنكف عن مزاولتها وكان يتقاضى بها قراريط من أصحاب اﻷغنام، ثم انتقل إلى التجارة الوسطى ليتاجر بجزء من مال خديجة ويأتي لها باﻷرباح المضاعفة ثم بعد الزواج بها صارت تجارتها الواسعة تحت تصرفه وقيادته، ولم يحتج أبدا للتدليس والغش والكذب ـ حاشاه ـ لتمشية تجارته كما هو بعض حال الواهمين أنّ التجارة ﻻ تبحر سفينتها إلا بربانية الكذب والتّدليس.
ومن خلال تجارته نمت ثقافته وربت معرفته، ففي اﻷسواق تكشفت له صفائح الناس وطبائعهم، إذ اﻷسواق صفائح النفوس بها تظهر معادن الرجال من سمح وجشع ومقدم وفزع ...، وتكشفت له المعاملات المالية بأوجهها ليفتي فيها فيما بعد على قدر بعدها عن المنازعات، وفي السوق تطرح القضايا الخاصة والعامة وتتداول اﻷخبار وكل جديد من المعارف وتتكون العلاقات، وما يوسع دائرة المعارف لديه لتتعدى المحلية إلى الاقليمية هو حجم سوق مكة ـ آنذاك ـ الذي يشكل مزار العرب عند حجهم واعتمارهم فقد دانت لمكة الزعامات الثلاث الكبرى الدينية والاقتصادية والثقافية، وكل ذلك ينسكب في إبريق عقلية المصطفى الفذة بيد أن شعيرته الأخلاقية ﻻ تزال بالمرصاد تفلتر النقي عن الشائب والصائب عن العائب.
فمن الناحية الاقتصادية ضربت قريش بتجارتها شمال الجزيرة وجنوبها في موسمي الشتاء والصيف فكانت تكنس بها أخبار الناس وجديدهم، ومن الناحية الثقافية كانت يأتمر فيها شعراء القبائل ليلقوا قصائدهم وسط أهل الفصاحة والنقد واﻷدب والثقافة فإن راقت أقروها فتوسعت القصيدة بصاحبها إلى العالمية وإﻻ ظلًّ شاعرًا محليًّا في جورب قبيلته، ومن الناحية الدينية فيكفي أن الكعبة رمز ما تبقى من الحنيفية في أرضها وبيدها فضل الرفادة والسقاية والاكتساء، فكل ذلك ارتقى بنبينا عمليا وعلميا ووظيفيا وثقافة وفكرا بفضل الله القائل:(ألم يجدك يتيمًا فآوى، ووجدك ضالًّا فهدى، ووجدك عائلًا فأغنى) وقال:(ألم نشرح لك صدرك).
سامي بن محمد السيابي
كاتب عماني
