المُتتبِّع لحركة الاقتصاد العُماني في السنوات الأخيرة، سيلاحظ أنَّ السِّياحة بدأت تأخذ مكانها بَيْنَ مُكوِّنات الدخل القومي الَّتي تصنع الفارق على الأرض، وذلك من منظور رؤية «عُمان 2040»، الَّتي اعتمدت السِّياحة كأداة تنمويَّة حقيقيَّة لتحفيز النُّمو وتحقيق التنويع الاقتصادي الَّذي طالما كان هدفًا استراتيجيًّا للدولة. فما ينجز حاليًّا لا يُمكِن فصله عن التحول في الذهنيَّة الحكوميَّة، الَّتي باتت ترى في السِّياحة قِطاعًا متشابكًا مع النقل والطيران والضيافة والخدمات، وليس قِطاعًا قائمًا بذاته، هذا التكامل كان له أثَر مباشر على نوعيَّة الزوار، ومدى رضاهم، ومعدَّل إنفاقهم، وهو ما انعكس على الأرقام الَّتي نشهدها اليوم. فالنَّجاح السِّياحي لم يأتِ فقط من الترويج أو الحملات الخارجيَّة، وإنَّما من تغيُّر عميق في البنية المؤسَّسيَّة وفي الإرادة السِّياسيَّة، لدفع هذا القِطاع للأمام لِيكُونَ جزءًا من معادلة الاستقرار الاقتصادي.
حين نتأمل البيانات الرسميَّة الصادرة نهاية عام 2024، نلحظ أنَّ القِطاع السِّياحي أسْهَم بمبلغ (2.12) مليار ريال عُماني في الاقتصاد الوطني، مقارنةً بـ(1.75) مليار في عام 2018، وهو ما يعادل زيادة قِيمتها (370) مليون ريال خلال ست سنوات، هذا الفارق يُعزى للنُّمو الطبيعي، وأيضًا إلى إعادة هيكلة المنظومة السِّياحيَّة، وتوجيه الاستثمارات إلى مشروعات ذات عائد مباشر، وتحسين تجربة السائح، كذلك ارتفاع مساهمة السِّياحة في النَّاتج المحلِّي إلى (2.7) مليار ريال يعكس تغيُّرًا في مكانة هذا القِطاع داخل الميزان العام للاقتصاد، فلا يُمكِن النَّظر إلى هذه الأرقام بوصفها مجرَّد مؤشِّرات ماليَّة، وإنَّما كعلامات واضحة على أنَّ هناك انتقالًا حقيقيًّا من مرحلة التأسيس إلى مرحلة التمكين، حتَّى القِيمة المضافة المباشرة الَّتي بلغت (1.09) مليار ريال جاءت نتيجة لمضاعفة قدرة القِطاع على خلق أنشطة مرتبطة مثل النقل الداخلي، والأنشطة الثقافيَّة، والمرافق الترفيهيَّة، بما يُثبت أنَّ الأثر الاقتصادي للسائح تجاوز تكلفة إقامته، وأصبح ينعكس على حركة الأسواق. التحوُّل لم يكُنْ فقط في الإيرادات، وإنَّما في نَوْعيَّة الحراك السِّياحي نفسه، فخلال عام 2024 زار عُمان حوالي (3.8) مليون سائح، وهو رقم كبير بالنَّظر إلى تعداد السكان، لكن الأكثر أهميَّة هو نسبة زوار المبيت الَّتي بلغت (68.2%)، ما يعني أنَّ معظم القادمين لم يمروا مرور الكرام، لكنَّهم أقاموا وأسْهَموا بفعالية في النشاط الاقتصادي، ومتوسط مدَّة الإقامة بلغ بَيْنَ خمس وست ليالٍ، ما منح السوق فرصة حقيقيَّة للاستفادة من إنفاق السائح في أكثر من مجال، بداية من الإقامة مرورًا بالمأكولات والمشتريات ووصولًا للأنشطة الترفيهيَّة، وتخطَّى متوسط الإنفاق للفرد الواحد (250) ريالًا عُمانيًّا، وهذا الرقم يضع سلطنة عُمان في مصاف الوجهات الَّتي تستقطب سائحًا نوعيًّا، يبحث بجانب السعر عن التجربة.. واللافت أيضًا هو التنوع الجغرافي للزوار، فوجود أكثر من (55%) من الزائرين من دولة الإمارات العربيَّة المُتَّحدة يعكس نجاح الربط البري والتكامل الخليجي، بَيْنَما تشير نسبة الأوروبيين والآسيويين إلى أنَّ الحملات الترويجيَّة بدأت تؤتي ثمارها، وتفتح آفاقًا لمزيدٍ من التوسُّع في الأسواق العالميَّة.
المشهد الفندقي هو المرآة الأوضح لهذا النُّمو، ومن نهاية مايو 2024 حتَّى مايو 2025، ارتفعت إيرادات الفنادق المصنفة بَيْنَ ثلاث وخمس نجوم بنسبة (18.5%)، لتصلَ إلى أكثر من (128) مليون ريال. هذا الرقم لا يُمكِن فصله عن نُمو عدد النزلاء، الَّذي بلغ قرابة (990) ألفًا، وكذلك ارتفاع نسبة الإشغال من (50%) إلى ما يتجاوز (58%). هذه الأرقام تدلُّ على أنَّ المعروض من الغرف الفندقيَّة لا يزال مطلوبًا، وأنَّ هناك حاجة حقيقيَّة لتوسعة البنية الأساسيَّة في المحافظات السِّياحيَّة، ولعلَّ أكثر ما يلفت الانتباه هو أنَّ الزوار من أوقيانوسيا وإفريقيا والأميركتين سجلوا نسب نُمو مرتفعة، ما يشير إلى اتساع الخريطة السِّياحيَّة للسلطنة، وتنوع شرائح الزوار. ويبقى أن نحلل الرقم المتعلق بالسِّياحة المغادرة (1.8 مليار ريال)، والَّتي أنفقها مواطنون ومقيمون خارج البلاد، وهو ما يفتح باب النقاش حَوْلَ أهميَّة بناء منتج سياحي داخلي قادر على استقطاب هذه القوَّة الشرائيَّة، والحفاظ على تدفق المال داخل الاقتصاد الوطني، عَبْرَ تطوير السِّياحة الداخليَّة وجعلها خيارًا مغريًا لا يقلُّ جودة أو تنوعًا عن الوجهات الخارجيَّة.