الأحد 13 يوليو 2025 م - 17 محرم 1447 هـ
أخبار عاجلة

في العمق : التسول الرقمي غطاء جديد للاحتيال المنظم والكسب السريع.. هل من جهد وطني فـي مواجهته إحصائيا وتشريعيا؟

في العمق : التسول الرقمي غطاء جديد للاحتيال المنظم والكسب السريع.. هل من جهد وطني فـي مواجهته إحصائيا وتشريعيا؟
السبت - 12 يوليو 2025 01:51 م

د.رجب بن علي العويسي

30


يُمثِّل التَّسوُّل في المُجتمع ظاهرةً خطيرة وسُلوكًا شائنًا وصِفَةً منبوذة، تَقُوم على الاعتماد الكُلِّي على الآخر والاستجداء مِنْه، وإهمال استخدام المدركات الفكريَّة والحسيَّة والجسديَّة، ذلك أنَّ المتسوِّل يعطِّل قدراته ويتمادى في استخدام الحِيَل المناسِبة له في الحصول على المال بالكذب والغش والخداع، حتَّى أصبحتْ ظاهرة التَّسوُّل منتشرةً في الأسواق ومراكز التَّسوُّق «المولات والهايبرماكت»، والمساجد ومحطَّات تعبئة الوقود والمقاهي والمطاعم، وأمام مكائن الصِّرافة البنكيَّة (ATM)، وأحيانًا يلجأ المتسوِّلون إلى طَرق أبواب المنازل، حاملين معهم صغار السِّن والأطفال استلطافًا واستجداءً لمشاعر الرَّحمة والعطف والإحسان بطلب الحاجة.

غير أنَّ ظاهرة التَّسوُّل لم تقفْ عِندَ هذا الحدِّ؛ بل اتَّسعتْ رُقعتها المكانيَّة لِتصلَ إلى الفضاء المفتوح والعالَم الرَّقمي، وهو ما يزيد من خطورتها وشدَّة ضررها؛ نظرًا لِمَا يصاحبها من دعاية وما يرافقها من إثارة، وما يتخللها من وعود ترفع سقف الثِّقة مع الآخر بما يقدِّمه المتسوِّل ذكرًا كان أم أنثى من وثائق على شكل مستندات أو وسائط فيديو توثِّق ـ حسب زعمه ـ المشهد الَّذي يعيشه أو يتحدث عَنْه، الأمْر الَّذي يظهر لدَى العامَّة بأنَّ القصَّة صحيحة، فيمنح خلاله مستخدم المنصَّات الاجتماعيَّة، الشَّخص المتسوِّل الثِّقة والأمان، لذلك يقع الكثير من مستخدمي المنصَّات الاجتماعيَّة (الفيس بوك والإنستجرام ومنصَّة X وغيرها) في مثل هذه المواقف الاحتياليَّة، وفي بعض الأحيان وحتَّى لا يُكتشف أمْر المتسوِّل خصوصًا إن ساور مستخدم هذه المنصَّات الشَّك في بيانات المتسوِّل والكشف عن هُوِيَّته وشخصِه، عِندَها تتحول شخصيَّة المتسوِّل من الفقير والضَّعيف والمحتاج إلى شخصيَّة أخرى من الانتقام، بالابتزاز والاحتيال من الشَّخص الَّذي قدَّم له المال؛ فإنَّ تعدُّد أشكال التَّسوُّل الإلكتروني وأدواته وآليَّاته وتنوُّع أساليبه الَّتي تتسع وتتنوع وتنتشر في الفضاء الرَّقمي انتشار النَّار في الهشيم، باتتْ تقدِّم للمتسوِّلين في الفضاء الرَّقمي فرصًا أكبر في الحصول على المال من التَّسوُّل التَّقليدي. من هنا اتَّجه المتسوِّلون إلى المنصَّات الرَّقميَّة لإدراكهم بتحقُّق أهدافهم وسرعة تنفيذ مخطَّطاتهم أكثر ممَّا لو كانتْ خارج هذه المنصَّات، ناهيك عن أنَّ الكثير من مستخدمي هذه المنصَّات لا يدركون حجم التَّغرير الَّذي يقع بهم، فتأخذهم الثِّقة والعفويَّة إلى الوقوع في فخِّ الاحتيال عَبْرَ ما يُسمَّى بالتَّسوُّل الرَّقمي، فمثلًا يرسل لك أحَدهم طلب صداقة في «الفيس بوك» فتقبل صداقته كشخص معروف في هيئته وصورته ثمَّ يبدأ بمراسلتك على الخاصِّ بأن يطلبَ رقمك لِيبدأَ بالاتِّصال فيك وإخبارك بالظُّروف الخاصَّة والعاجلة الَّتي يعيشها، وأنَّه أرسل لك رسالة صوتيَّة أو نصيَّة عَبْرَ (الواتس آب) ويرغب مِنٍك الردَّ الفَوري والعاجل عَلَيْها، وأنَّه يريد من هذا الاتِّصال العون والمساعدة، عَبْرَ قرضه مبلغًا من المال لفترة معيَّنة وسيتمُّ إرجاعه لك، لِيضعَك في صورة الأمْر الواقع الَّذي لا مجال فيه للاعتذار، بتنفيذ طلبه حتَّى لا تفقد صداقته، وما إن يأخذ المبلغ إلَّا ويدير ظهره ويغلق هاتفه أو يحظرك من التَّواصُل معه واستخدام (الواتس آب) وهكذا يكرِّر هذا المشهد مع آخرين.. يمثِّل الاستقراض إحدى الطُّرق الَّتي ابتدعها بعض المتسوِّلين الَّذين يتجنبون المواجهة المباشرة ويخفون وجوههم عن الأنظار.

أو أن يحصلَ أحيانًا بأن يباشرَك بطلبه بعد قَبول صداقته في إحدى هذه المنصَّات بأنَّ لدَيْه ظروفًا خاصَّة فيطلب مِنْك مبلغًا من المال وأنَّه سيَقُوم بإرجاعه بعد فترة معيَّنة ويلح على هذا الطَّلب حتَّى وإن كان باليسير من المال لِيغطِّيَ المُشْكلة الَّتي لدَيْه، وهكذا يتمُّ إرسال المبلغ له ويختفي ظهوره من هذه المنصَّة لِيظهرَ باِسْمٍ آخر وبحساب جديد ويدخل بمسمَّى آخر، وهكذا باتَ الأمْر أكثر من تسوُّل وقتي، بل حالة مستمرة مستفيدًا من خاصيَّة إغلاق الحساب في «الفيس بوك» (منع الوصول أو مشاهدة المحتوى مع بقاء التَّواصُل مع الشَّخص عَبْرَ الماسنجر فقط) إذ إنَّ صاحب الحساب قد يكُونُ غير الظَّاهر في الصُّورة، وهكذا باتْ أمْر التَّسوُّل الرَّقمي أكثر خطورة؛ كون الفرد يتعامل مع أشخاص وهميِّين وحسابات وهميَّة يمارسون التَّسوُّل في ثوب الاحتيال أو ينتحلون صِفة وشخصيَّة أشخاص معروفين كأصدقاء أو جيران أو زملاء في العمل.

عَلَيْه، ونظرًا لقلَّة أو غياب وجود الإحصائيَّات الدَّقيقة أو حتَّى التَّقريبيَّة عن التَّسوُّل الإلكتروني، تبقى أحداثه ومواقفه ومخاطره وتداعياته السلبيَّة على الفرد والمُجتمع محطَّة لالتقاط الأنفاس وتقييم المسار ومراجعة الأُطر، ودعوة للجهات المعنيَّة بتبنِّي سياسات وطنيَّة وأُطر وتشريعات تضع التَّسوُّل الإلكتروني في عين الرَّقابة والمتابعة والرَّصد والتعقُّب؛ باعتباره أحَد مُكوِّنات الجرائم الواقعة على الأموال؛ لِمَا باتتْ تُمثِّله ظاهرة التَّسوُّل الرَّقمي من مخاطر كبيرة تصل إلى الابتزاز والاحتيال، ولعلَّ النَّقص في الإحصائيَّات الوطنيَّة حَوْلَ تفاصيل هذه الظَّاهرة رقميًّا، رغم توافرها في نطاق الإحصاء التَّقليدي والرَّصد العامِّ للظَّاهرة إلَّا أنَّ اتِّجاه الظَّاهرة ـ كما أشرنا ـ إلى العالَم الافتراضي ودخولها بقوَّة في العالَم الرَّقمي باتَ يؤكِّد الحاجة إلى تعظيم البيانات الوطنيَّة المعنيَّة برصد التَّسوُّل الرَّقمي والحصول على بيانات واضحة تساعد المؤسَّسات والرَّأي العامَّ في تبنِّي أُطر المعالجة وضمان القدرة على التَّعامل الواعي معها. وكما أشرنا، بأنَّ التَّسوُّل الإلكتروني لم يقف عِندَ حدِّ التَّسوُّل فقط بالحصول على المال واستغلال المتسوِّلين لهذه المنصَّات بالولوج إِلَيْها بأساليب وآليَّات وأدوات مختلفة عنوانها التَّسوُّل ولكنَّها تُخفي حقيقة الصُّورة القادمة والَّتي باتتْ تتَّجه إلى ما هو أعقد من ظاهرة التَّسوُّل والحصول على المال إلى بواعث إجراميَّة أخرى ما يؤكِّد على أهميَّة رفع درجة الجاهزيَّة الوطنيَّة في التَّعامل مع التَّسوُّل الإلكتروني في إحصائيَّات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات وإحصائيَّات شُرطة عُمان السُّلطانيَّة، وإعادة تصنيف هذه الظَّاهرة كإحدى الجرائم الواقعة على الأموال نظرًا لمخاطرها وتأثيراتها وسرعة انتشارها بحيثُ تُصبح لُغة الأرقام أحَد موجِّهات الوعي وموجبات الرَّدع وتنفيذ العقوبة.

ومع التَّقدير للجهود الَّتي تَقُوم بها وزارة التَّنمية الاجتماعيَّة مع الشُّركاء الاستراتيجيِّين والَّتي أفصحتْ عن تنفيذ (1699) حملة لمكافحة التَّسوُّل بنهاية عام 2023، وجملة الإجراءات والتَّعميمات الَّتي تستهدف الحدَّ من الظَّاهرة في الواقع الميداني، والَّتي أسْهمَتْ في تراجع هذه الظَّاهرة بَيْنَ العُمانيِّين؛ إلَّا أنَّه يَجِبُ الالتفات أيضًا إلى ظاهرة التَّسوُّل الرَّقمي وعَبْرَ اتِّخاذ إجراءات أو تبنِّي مبادرات مع الشُّركاء عَبْرَ برامج رقميَّة نَوعيَّة في الكشف عن التَّسوُّل الرَّقمي والتَّحذير من أشكاله المختلفة من غير الاحتيال والابتزاز، وإنَّ من بَيْنَ الأمور الَّتي نعتقد بأهميَّة ضبطها والَّتي باتتْ فرصة سانحة لممارسة التَّسوُّل الذَّكي، ما يظهر من انتشار بعض الحسابات الَّتي تدعو إلى التَّبرُّع والصَّدقة لبناء مسجد أو مدرسة قرآن كريم أو دفع فاتورة ماء أو كهرباء عن أُسرة معسرة، أو مساعدة مسرَّح عن عمله في تخطِّي الدُّيون والتَّراكمات نتيجة تسريحه من عمله أو مطالبة أصحاب الحقوق له بإبقائه في السّجن، أو تقديم العون لمريض يتعالج خارج سلطنة عُمان أو جمع المال لفكِّ الكربة عن أُسر أيتام وفقراء ومعسرين وغيرها من الأمور الَّتي اتَّسعتْ بشكلٍ مخيف وأصبحتْ فرصة لدَى البعض في الدخول في هذا المجال، سواء من الدَّاخل أو الخارج، والَّتي باتتْ تنتشر في حسابات بعض الأشخاص المعروفين في منصَّات التَّواصُل الاجتماعي وقد يَقُوم بعضهم بالحصول على دعم وترويج من أحَد مشايخ العِلم بالدَّعوة إلى النَّفقة والصَّدقة، الأمْر الَّذي يؤكِّد على أهميَّة ضبط هذه الممارسات وتقنين مسألة الحصول على الدَّعم عَبْرَ المنصَّات الاجتماعيَّة، ومنْع كُلِّ الدِّعايات والإعلانات الَّتي تستهدف الحصول على المال أو التَّبرُّع والنَّفقة لِيكُونَ ذلك عَبْرَ «منصَّة جود الخيريَّة»، أمَّا ما عداها من ممارسات فيتمُّ معاملتها في إطار الاحتيال الإلكتروني، وتتَّخذ بشأنها الإجراءات القانونيَّة، والمساءلة للأشخاص الممارسين لها، ما يؤكِّد في الوقت نَفْسه على أهميَّة العمل الوطني المشترك نَحْوَ تعزيز الوعي الجمعي المُجتمعي بمخاطر التَّسوُّل الرَّقمي ودوافعه وأشكاله ووقوف المُجتمع ضدَّ هذه الممارسات الَّتي فيها من التَّحايل والابتزاز ما ينتهك حقوق النَّاس وأموالهم بِدُونِ وَجْه حقٍّ.

د.رجب بن علي العويسي

[email protected]