في زمنٍ صاخِب بالأجهزة والإشعارات، باتَ من الصعب أن نسمع صوت الأشجار أو نلمح خضرة الغابات. أصبحتِ المُدن تبتلع مساحات الطبيعة، واختفتْ لحظات التأمُّل خَلْف شاشات الهواتف وموجات القلق المتصاعدة. لكن ماذا لو استطعت أن تخطو بَيْنَ أغصان الأشجار، تستنشق هواء نديًّا، وتسمع تغريد الطيور... وكُلُّ ذلك وأنْتَ جالس في غرفة العلاج أو حتَّى في منزلك؟ نعم، هذا ما أراه قد يكُونُ مناسبًا في هذا العصر مستفيدين من التقنيَّة الجديدة الَّتي تمزج بَيْنَ الطِّب النفسي والتكنولوجيا: الطبيعة الافتراضيَّة عَبْرَ الواقع الافتراضي! خصوصًا قد يكُونُ مناسبًا لمؤسَّسات الطب النفسي وقانطي تلك المؤسَّسات! بطبيعة الحال قصَّة مُعلِّمة، هي الَّتي جعلت منِّي أفرد هذا الموضوع وأهميَّته، حيثُ بدأتْ تعاني من القلق المزمن بعد تجربة شخصيَّة صعبة. لم تستجب للعلاج بالكلام ولا للأدوية. فقَدَتْ تركيزها، وباتتْ تبكي دُونَ سبب واضح. لذلك نصحَها الطبيب بجلسات الواقع الافتراضي. كانتْ متردِّدة بالأوَّل. كيف ستشفيها شاشة وسمَّاعة؟ ولكنَّها وافقتْ، وجلستْ، وضعتِ النظارات، وانغمستْ في عالم من الأشجار الممطرة والأنهار الجارية. بعد عدَّة جلسات، بدأتْ تَشعر بالتحسن: نوم أعمق، قلق أقل، وقدرة أكبر على التركيز. الغابة لم تكن حقيقيَّة... لكنَّ الأثر كان حقيقيًّا، بل أصبحتْ تقول لاحقًا: عِندَما أغمض عيني الآن، أسمع نهر الغابة في داخلي، لا صراخي الداخلي! ففي شهر يونيو ٢٠٢٥ الماضي، نشرت جامعة ألمانيَّة دراسة شملتْ أربعمئة مشارك يعانون من اضطرابات قلق خفيفة إلى متوسِّطة. حيثُ تمَّ وضع المشاركين في بيئة افتراضيَّة تمثل غابة مطيرة تفاعليَّة، مصحوبة بأصوات طبيعيَّة، وروائح خفيفة، واهتزازات تحاكي المشي بَيْنَ الأعشاب. بعد ستة أسابيع من الجلسات المنتظمة، أظهر ستون بالمئة من المشاركين تحسنًا كبيرًا في مقاييس القلق، بَيْنَما أبلغ أربعون بالمئة عن تحسُّن في الذاكرة القصيرة والانتباه، وانخفض معدَّل ضربات القلب ومستويات الكورتيزول (هرمون التوتر) بنسبة ثمانية عشر بالمئة. ولعلَّ هذه النتائج تدعم مفهوم الاستحمام الغابي الافتراضي؛ وهي محاكاة رقميَّة لتجربة الطبيعة الحقيقيَّة الَّتي ثبتَ علميًّا تأثيرها الإيجابي على الصحَّة النفسيَّة. بطبيعة الحال، عِلم النَّفس البيئي يشرح أنَّ مجرَّد النظر إلى مشاهد طبيعيَّة يحفِّز الجهاز العصبي الباراسمبثاوي المسؤول عن الاسترخاء. حتَّى أنَّ البيئة الخضراء تفعِّل مراكز الهدوء في الدِّماغ، خصوصًا في القشرة الجبهيَّة. لذلك ومع تقنيَّات الواقع الافتراضي، رُبَّما تُعزّز هذه التجربة بالحركة والصوت والرائحة وحتَّى الإحساس مرضانا ممَّا يجعل الدِّماغ يترجمها كواقع نفسي حقيقي! ومن هنا الأطباء النفسيون في اليابان، والسويد، وأيضًا بألمانيا بدأوا بالفعل إدراج هذا النَّوع من العلاجات لمرضى الاكتئاب، والقلق الاجتماعي، وحتَّى للمرضى الَّذين يعانون من إرهاق ما بعد الكوفيد. كما طبّقتِ التجربة على طلاب الجامعات قَبل الامتحانات النهائيَّة، وأظهرت انخفاضًا في مؤشِّرات التوتر بنسبة خمسة وثلاثين بالمئة. حتَّى أنَّه حاليًّا تستخدم تقنيَّات مشابهة في بعض المستشفيات للأطفال المصابين بالأورام لتخفيف الألَم النَّفسي خلال جلسات العلاج الكيميائي. ختامًا، قد لا تُغني الغابة الافتراضيَّة عن الطبيعة الحقيقيَّة، لكنَّها ـ إن استطعت القول ـ تقدِّم خيارًا فعَّالًا ومتاحًا في عصر الزحام والانفصال الحسي والعقلي. وعَلَيْه فمستقبل الطِّب النفسي لا يبدو محصورًا بَيْنَ الحبوب والجلسات، بل مفتوح على آفاق تدمج بَيْنَ الإنسان والطبيعة والتقنيَّة في تناغم ذكي. ولعلَّ ما أشار إِلِيْه الشَّافعي من أهميَّة الطبيعة في حياتنا فقال: صحبت الصَّمت حتَّى نطَقني الغصن الأخضر، ورافقني التأمل حتَّى شفى قلبي منظر النهر. فكم من مرَّة شعرت بالراحة حينما جلست في حديقة أو تأملت البحر؟ فلا عجب حقًّا بأنَّ الطبيعة فطريَّة في تهدئتها لنا!
د. يوسف بن علي الملَّا
طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي