حين أفكر في رحلة الاقتصاد العُماني كإنسان عايش تفاصيل هذا البلد يومًا بيوم لِمُدَّة عَقدَيْنِ، أرى أنَّ النهضة العُمانيَّة المتجددة تؤكد يومًا بعد يوم على أن تنمية الصادرات قضيَّة وجود وصمود. صحيح أنَّني لستُ مواطنًا عُمانيًّا لكنَّني أحمل لهذا الوطن في وجداني كدار ثانية أعيش على أرضها وأتنفس طموحات أهلها، فمنذ انطلاق هذه النهضة المباركة يدرك صنَّاع القرار بأنَّ الصادرات العُمانيَّة هي مفتاح النهوض، فهي تحمل رسالة مفادها أنَّ هذا البلد لا يكتفي باستخراج الثروة من جوف الأرض، لكنَّه يمضي في إيجاد فرص جديدة خارج حقول الخام، لِيحفظَ توازنه، ومن يراقب الأسواق العالميَّة يدرك أنَّ المورد الواحد صار فخًّا تتجنبه الدوَل الذكيَّة، ويظل تصدير السلع العُمانيَّة غير النفطيَّة، من المعادن وحتَّى الصِّناعات الكيماويَّة، فرصة لرفع قيمة الميزان التجاري وتحويله من مجرَّد أرقام إلى ضمانة حقيقيَّة أمام أيِّ أزمة قد تطرق الأبواب فجأة. ولعلَّ أهم ما شغل تفكيري عِندَما طالعتُ الأرقام الصادرة عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات، ورأيتُ الفائض التجاري بَيْنَ 2024 و2025، شعرتُ أنَّ الأرقام قد تكُونُ خادعة، إذ لم تنتبه لها، فقراءة التفاصيل بعناية يظهر أنَّ الاقتصاد الوطني يمضي في طريق التنويع، فالانخفاض الكبير في الفائض التجاري كان متوقعًا مع تراجع صادرات النفط والغاز، وهو ما يؤكد على أنَّ الرهان الدائم على مورد قابل للنضوب ليس رهانًا حكيمًا مهما بدا مغريًا على المدى القريب. ويأتي الارتفاع الملموس في الصادرات غير النفطيَّة ـ رغم تحدِّيات السوق وسلاسل التوريد والمنافسة الإقليميَّة ـ شهادة عمليَّة على أنَّ الجهد المبذول في دعم قِطاعات التنويع الاقتصادي بدأ يعطي ثماره. ومع ذلك أرى أنَّ هذا النُّمو لا يكفي وحده، فهو يحتاج لمنظومة دعم أوسع، من تحفيز الصِّناعات التحويليَّة وتسهيل الإجراءات اللوجستيَّة إلى إيجاد أسواق جديدة بشروط عادلة تُبقي المنتَج العُماني منافسًا حاضرًا في أسواق شديدة التنافسيَّة. إنَّ أهمَّ ما يُلفت الانتباه في تلك الإحصائيَّات هي تفاصيل إعادة التصدير، حيثُ تظهر الأرقام بوضوح كيف أنَّ بعض القِطاعات فقدَتْ جزءًا من حيويَّتها في إعادة التصدير باستثناء الأغذية والمشروبات الَّتي أظهرتْ روحًا جديدة تستحق الالتقاط والبناء عَلَيْها، هذه النقطة وحدها تؤكد على أنَّ الرهان على الابتكار في تحويل المواد الخام إلى منتجات ذات علامة تجاريَّة قويَّة هو الضَّامن الأوَّل لتقوية هيكل الصادرات واستدامة الفائض، وفي المقابل يطرح ارتفاع فاتورة الواردات بنسبة (9%) تساؤلًا ملحًّا حول قلَّة بدائل الإنتاج المحليَّة الَّتي تُقلِّل من خروج العملة الصعبة وتوفِّر فرص عمل جديدة، وتضيف قيمة في دَوْرة الاقتصاد، فكُلُّ منتَج يستورد من الخارج بَيْنَما يُمكِن تصنيعه محليًّا يعني أنَّ جزءًا من الثروة يتسرب في صَمتٍ! وهنا مكمن الحاجة لاستراتيجيَّة إنتاج بديلة تترجم إلى مصانع ومبادرات وأيدٍ عاملة تفتح لنفسها سُوقًا واسعًا. لقد تعلمتُ من عملي الصحفي أنَّ الأرقام لا تُعَبِّر وحدها عن الحقيقة المُطلقة، فتلك الأرقام إذا لم يكن وراءها من يقرؤها بعناية وصِدق، ستصبح مجرَّد منشور روتيني. فهذه البلاد تملك من المقوِّمات ما يجعلها في طليعة الدول الَّتي توازن بَيْنَ دخل النفط وقيمة ما ينتَج ويصدَّر خارج حقول الطَّاقة، كما أنَّها قادرة على تعظيم القيمة من النفط نفسه عَبْرَ التَّكرير والصِّناعات البتروكيماويَّة، وهو مسار لا يقلُّ أهميَّة عن فتح أسواق جديدة للصادرات. فالفائض التجاري ليس أمنية، لكنَّه يأتي نتيجة تخطيط وصبر وإيمان بأنَّ قوَّة الدولة تكمن في قدرتها على تحويل مواردها إلى فرص عمل وصناعات حقيقيَّة تحمل شعار «صنع في عُمان» وتصل إلى أسواق بعيدة بقدرة تنافسيَّة لا تتأثر باضطرابات الأسواق أو الأزمات العابرة.
إبراهيم بدوي