الاثنين 07 يوليو 2025 م - 11 محرم 1447 هـ
أخبار عاجلة

«إعادة تصميم الحياة.. كيف سيغير تحرير الجينوم العالم؟»

«إعادة تصميم الحياة.. كيف سيغير تحرير الجينوم العالم؟»
السبت - 05 يوليو 2025 05:50 م

سعود بن علي الحارثي

30

شهدت العلوم في العصر الحديث تطورًا سريعًا يفوق حدود ما هو متخيل في العقل والطموح الإنساني. ومن بَيْنِ هذه العلوم المثيرة للجدل، الانفتاح على أسرار الشيفرات الوراثيَّة للكائنات الحيَّة، والسير حثيثًا في توظيف واستخدام التقنيَّة للتلاعب بالخلايا وإجراء التجارب العمليَّة للتثبت من القدرة مستقبلًا على تحفيزها وتحسين أدائها، والتعامل مع الإنسان على غرار ما حدَث من إنجازات تتعلق بالمحاصيل الزراعيَّة المعدَّلة وراثيًّا، في «سيناريوهات مستقبليَّة متخيلة تبدو وكأنَّها أقرب إلى الخيال العلمي..». هذا العدد «٥١٠»، من سلسلة عالم المعرفة الصَّادر في أبريل ٢٠٢٤م، لمؤلفه «جون بارينجتون»، من أكثر الكتب أهميَّة وخطورة على مستقبل الإنسان؛ كونه يتناول موضوع «تحرير الجينوم»، الَّذي سيفتح الباب مشرعًا لإجراء تعديلات جوهريَّة في «الجنين البَشَري»، بمعنى إعادة تصميم الكائن البَشَري وفقًا لمتطلبات ورغبات واحتياجات الأبوين، أو تحقيقًا لمصالح مؤسَّسات حكوميَّة وتجاريَّة ما، أي «أطفال مصممين وفْقَ الطلب.. صمموا عِندَ الولادة ليكُونُوا بمظهر جميل أو ذكاء عالٍ أو قدرة استثنائيَّة في الرياضة أو الموسيقى...». وبَيْنَ القلق والرعب من المخاطر الجسيمة الَّتي سيحدثها مشروع تعديل الأجنة ليس على الإنسان فقط، بل على الكون برُمَّته، والتفاؤل بحدوث ثورة في فَهْم الأمراض وعلاجها وتحسين الجنس الإنساني. يناقش الكِتاب عددًا من المحاور المرتبطة بقضيَّة لا يزال الملايين من النَّاس حَوْلَ العالَم يجهلونها، ومعظمهم لا يعون انعكاساتها عليهم ولا يدركون أسرارها العميقة، وما يقبع في عقل العلماء وغرف مختبراتهم وأبحاثهم وتجاربهم من طموحات وتطلعات مستقبليَّة لتوظيف التقنيَّة في التلاعب بخصائص وخلقة الإنسان».. يسعى الكاتب إلى الدفاع عن «الهندسة الوراثيَّة كأداة حيويَّة لِفَهْم الحياة والتلاعب بها من أجْلِ المنفعة البَشَريَّة»، متطلعًا إلى «إثبات أن مصادر القوَّة الجديدة هذه ليسَتْ ذات أهميَّة للعلماء فقط، بل هي أمْر يَجِبُ أن يتعرف عليه الجميع»، في منأى عن مبالغات وسائل الإعلام وصياغاته المنفرة، الَّتي تؤسِّس للخوف والقلق من تطوُّر علوم الوراثة وتحرير الجينوم. قدَّم الكِتاب، موجزًا زمنيًّا ـ تاريخيًّا، لمَسيرة التطور والتحولات المتدرجة الَّتي صحبت حياة الإنسان والكائنات والحيوانات الأخرى، فالكلاب الَّتي انحدرت من سلالة الذئاب حدثتْ لديها تغيُّرات سلوكيَّة رافقت تحوُّلها من «حيوان بري حذر إلى حيوان أليف كسول اليوم... وأصبحتْ جزءًا من المُجتمع البَشَري». فقد كانتِ البدايات التاريخيَّة لتلاعب البَشَر بالجينات قبل آلاف السنين، عِندَما تم «تدجين النباتات والحيوانات المختلفة الَّتي توفر لنا الطعام والملابس والنقل؛ أو من خلال الانخراط في بعض المباهج الجماليَّة مثل البستنة أو الرياضة؛ وحتَّى من خلال توقنا إلى الرفقة في شكل حيوانات أليفة فقد دجّنا الكائنات الحيَّة الأخرى من خلال أخذ الأنواع البريَّة وتحويلها من حيثُ الحجم والمظهر والسلوك والسِّمات الأخرى؛ أي أننا في المحصلة غيرنا جيناتها»، عارضًا العديد من النظريات والفرضيات للكيفيَّة والطريقة الَّتي تمَّ بها تدجين عدد من الحيوانات لتصبح في خدمة الإنسان. في القرن التاسع عشر الميلادي، بدأت إنجازات العلماء الموثَّقة والمسجَّلة لنشاطهم المتسارع تحصد نتاج ثمارها في علوم الوراثة، فأسْهَم العِلم في فَهْم واستيعاب أسرار انتقال الخصائص الوراثيَّة وتأثيراتها ـ وتحديد «بنية اللولب المزدوج للحمض النووي»، الَّذي عدَّ اكتشافًا للحياة ـ وإثبات أنَّ «الحمض النووي هو جزيء الوراثة» ـ و»زيادة الوعي بالآثار الخطيرة للإشعاع في الجينات البَشَريَّة»... وتواصلتِ الإنجازات العلميَّة باكتشاف أنواع جديدة من الأنزيمات الَّتي تعطي العلماء فهما أوسع لمعالجة أمراض الإنسان وتحسين أداء الأعضاء العليلة والضعيفة، وقادت تلك الطفرة في الاكتشافات إلى الخلاف بَيْنَ «أولئك الَّذين يعتقدُونَ أنَّنا يَجِبُ أن نسعى فقط إلى فَهْم العالم الطبيعي، أو الَّذين يعتقدُونَ أنَّه يَجِبُ علينا التلاعب به والسيطرة عليه بفاعليَّة من أجْلِ المنفعة البَشَريَّة». فيما تقود هذه النقاشات من جانب آخر، إلى إثبات وتبَيّن حجم الأضرار الَّتي تلحقها هذه الاكتشافات والاستخدامات بالإنسان، ثم العمل على تحسينها باستمرار للتقليل من المخاطر. فالعِلم وإنجازاته يشتغلان على كافَّة المجالات والحقول. احتشد الكتاب بالمصطلحات العلميَّة والاكتشافات والتفسيرات المعقدة جدًّا على القارئ غير المتخصص في علوم الوراثة، وتأثيرات الاكتشافات على الإنسان وارتباطها الوثيق ببعضها بعضًا، وطرق إجراء التجارب على الحيوانات، والمخاوف الَّتي تصاحب تطبيقاتها على الإنسان، والجهود المبذولة لتحسين نتائجها، والتعقيدات الَّتي يعمل بها الجسم البَشَري... بأسلوب عالم متخصص غارق في حقل العِلم الَّذي يعمل فيه والدراسات الطبيَّة الَّتي يشتغل عليها... وبشأن الاكتشاف العلمي الحديث لتحرير الجينوم، يحدد «جون بارينجتون»، مجموعة من المميزات المعلنة عن أهميَّته الاستثنائيَّة، مِنْها: «إمكانيَّة تطبيق هذه التقنيَّة عمليًّا على أيِّ نوع من الخلايا ومن أيِّ نوع نباتي أو حيواني، بدءًا من البكتيريا وصولًا إلى البَشَر ـ يُمكِن لهذه التقنيَّة أن تستهدف بدقَّة أي منطقة في الجينوم، ثم تمحو تمامًا وظيفة الجين الأصلي، أو تعدلها بدقَّة متناهية، سواء بإدخال طفرة أو إضافة واسمة فلوريَّة ـ كفاءة الاستهداف الجيني عالية جدًّا، لذا لا حاجة إلى اللجوء إلى عمليَّة اختيار معقدة تتمثل في استخدام عقار للتعرف على حدث لا تتجاوز نسبة وقوعه واحدًا في المليون ـ لا يترك هذا النوع من الهندسة الوراثيَّة أيَّ أثَر للحمض النووي الأجنبي في الجينوم المستهدف»... في المحور المركزي لموضوع الكتاب «تجديد الحياة»، يطرح الكاتب أسئلة المستقبل، وطموحات العلم، وتقريب الصورة للقارئ العادي، وسعي الطب الحثيث لربط الاكتشافات بخدمة الإنسان، والكشف عن حقيقة الطموحات لبلوغ هذا الهدف، «تخيل أن تكُونَ قادرًا على استبدال الأنسجة أو الأعضاء البَشَريَّة متى ما أصابها خلل أو مرض أو تلف أو مجرَّد تقدُّم في السِّن. إذا كان هذا ممكنًا، فقد يصبح المرض نادرًا ويطول العمر الطبيعي للإنسان سنوات مديدة، ورُبَّما إلى الأبد...»، ويلحق هذا الطموح المستقبلي بملاحظة دقيقة، تتعلق بالقلق الَّذي لن يكُونَ «أخلاقيًّا» فقط، بل تصحبه عقبات أخرى «يواجهها العلماء الَّذين يسعون إلى تطوير الخلايا الجذعيَّة الجنينيَّة للأغراض العلاجيَّة، وهي رفض الأنسجة أو الأعضاء المزروعة بسبب الاختلافات في بروتينات معقَّد التوافق النسيجي الرئيس بَيْنَ الشخصين». لا شيء يبقى ثابتًا أمام الثورات العلميَّة الهائلة، الأعراف، القِيَم، التقاليد، الثقافات، آراء النَّاس، حتَّى بعض النظريات العلميَّة.. تصبح في لحظة تحوُّل علمي من الماضي، فالعِلم يتقدم اليوم بسرعة لم تحدُث خلال قرون طويلة من التاريخ، «ما هو مقبول الآن وما سيكُونُ مقبولًا في العام ٢٠٣٥م، قد يكُونُان أمرَيْنِ مختلفين تمامًا. فهل نطوِّر التكنولوجيا وفقًا للمبادئ الأخلاقيَّة الحاليَّة؟ أم وفقًا لأخلاقيَّات العام ٢٠٣٥م؟ وهل سيؤدي التعديل الجيني لأقرب أقربائنا من الرئيسيات، إلى البدء بطمس الحدود بَيْنَ ما هو بَشَري وما هو غير ذلك؟». كِتاب يعمِّق الوعي ويضع القارئ أمام حقيقة التحوُّلات العلميَّة المتسارعة، وما هو قادم من مفاجآت التجارب وبراءات الاختراع والاكتشافات المذهلة.

سعود بن علي الحارثي

[email protected]