لا أظنُّ أنَّ أحدًا مِنَّا لم يُعانِ من الآتي: يتَّصل الزبون (العميل) بمركز الخدمة (خصوصًا لو كان بنكًا أو شركة اتِّصالات)، فيُستقبل برسالة صوتيَّة تطلب مِنْه إدخال رقم الحساب، ثمَّ اختيار نَوْع الخدمة، ثمَّ تحديد نَوْع المُشْكلة، وبعد خطوات مُتعدِّدة، يجد نَفْسه في دوَّامة من التَّعليمات، وأحيانًا لا يصل إلى أيِّ نتيجة، بل يُطلَب مِنْه إعادة المحاولة أو الرُّجوع إلى القائمة الرَّئيسيَّة. هذا النَّوْع من التَّعامل والَّذي يفترض أنَّ الهدف مِنْه «التَّنظيم أو التَّسهيل» يتحوَّل إلى إزعاج ومتاهة رقميَّة لا تستجيب لحالة الزبون (العميل) الطَّارئة أو المُعقَّدة، لا سِيَّما لو كان اتِّصالك «دوليًّا». الواقع يقول إنَّ بعض الإجراءات التقنيَّة ـ رغم أنَّ المفترض مِنْها: تعزيز تجربة العميل، إلَّا أنَّها تُبعد الزبون (العميل) بدلًا من أن تجعلَه متشبثًا ومدافعًا عن مقدِّم الخدمة، ومن بَيْنِ هذه الإجراءات، يبرز الردُّ الآلي مُتعدِّد الخطوات كإحدى أكثر النّقاط إرباكًا في تجربة التَّواصُل بَيْنَ المؤسَّسة والعميل. بعد تجربة «شاقَّة ومزعِجة ومؤلِمة» مع إحدى المؤسَّسات الخاصَّة، الَّذي جعلني خيار الردِّ الآلي أتُوه وأصرخ بأعلى ما أوتِيتُ من غضب قرَّرتُ فعليًّا الانسحاب مِنْها والبحث عن بديل آخر ـ حتَّى الآن لم أجدْ وهذه نقطة أخرى ستتناولها مقالة أخرى ـ. فبدلًا من تعزيز التَّجربة والسَّماح للزبون (للعميل) بالتَّحدُّث إلى صوتٍ بَشَري مؤهَّل لإنهاء الخدمة، جعلني الردُّ الآلي أتُوه وكأنِّي في بيتٍ من بيوتات المتاهة، والحقيقة المؤلِمة أنَّ نظام الردِّ الآلي لبعضِ المؤسَّسات يُشبه بيت جحا... تدخلُه وأنْتَ تبحثُ عن حلٍّ، فتَتُوه بَيْنَ الأرقام والخيارات، ثمَّ تخرج دُونَ أنْ تصلَ إلى شيء. والمُجتمع (السَّواد الأعظم مِنْه) يتَّفق على أنَّ الردَّ الآلي يجعل تجربتهم مع المؤسَّسة أكثر تعقيدًا، وأنَّ جزءًا غير بسيط مِنْهم ينهون الاتِّصال دُونَ إكمال الخدمة بسبب القوائم الطَّويلة والمتشابكة. ليس الأمْر تقنيًّا فقط، بل إنَّ الزبون (العميل) يصل إلى الموظَّف البَشَري ـ إن وُجد ـ وهو منزعج أو متوَتِّر، الأمْر الَّذي قد ينعكس سلبًا على التَّفاعل لاحقًا، حتَّى وإن تمَّ حلُّ مُشْكلته، هذا النَّوْع من التَّوَتُّر يُعمِّق فجوة الثِّقة بَيْنَ الزبون (العميل) والمؤسَّسة، ويخلق لدَيْه انطباعًا بأنَّ المؤسَّسة لا تضعُه في مُقدِّمة أولويَّاتها، بل تسعَى لتقليلِ الجهد على نَفْسها ولو على حسابه.. ففي النِّهاية، الزبون (العميل) يريد أن يُستمعَ إِلَيْه، وإذا شعَر بالعكس، فسيبحث عن بديل. وعلى الرّغم من وجود عددٍ من الخيارات الَّتي يُمكِن تطبيقها مِثل: تقليص عدد الخيارات الصَّوتيَّة، أو توفير خيار «التَّحدُّث إلى مُوظَّف» في كُلِّ مرحلة، وهي رغم بساطتها وإمكان تطبيقها، إلَّا أنَّها تُرسِل رسالةً مُهمَّةً جدًّا للزبون (للعميل) مفادها «نحن نسمعك».. السُّؤال الَّذي يُمكِن أنْ نختتمَ به هذه المقالة والَّذي أوَدُّ أنْ أوجهَه إلى شركات الاتِّصال والبنوك: هل نستخدم التقنيَّة لتعزيزِ العلاقة مع الزبون (العميل)؟ أم نُسخِّرها لتقليصِ الاتِّصال البَشَري إلى أدنى حدٍّ؟ و(القهر) يُقال للزبون (للعميل) ستجد إجاباتك في التَّطبيق المُخصَّص.. طيب؟؟ إذا كان مُحدِّثكم ليس له في التقنيَّة إلَّا ما يفتح به «الفلاش» ويقفل «الواي فاي»، ثمَّ يُطلَب مِنْه أنْ يُدخلَ رقم الحساب، ويضغط (7)، ثمَّ (2)، ثمَّ مربَّع، ثمَّ يَعُود للقائمة الرَّئيسيَّة؛ لأنَّه «لم يختَرِ الخيار الصَّحيح»! فمتى أصلُ أنا أصلًا؟ نهاية الأسبوع؟ ويظلُّ المتَّصل المسكين يَدُور في بيت جُحا الصَّوتي، الَّذي تعرف فيه من أين تدخُل، ولكن من الصُّعوبة أنْ تعرفَ كيف تخرج دُونَ أنْ يرتفعَ ضغطُك. صِدقًا.. التقنيَّة جميلة، لكنَّها حين تحلُّ محلَّ الإنسان كُلِّه، ستكُونُ المحصِّلة زبونًا (عميلًا) غاضبًا، ونجمة واحدة في التَّقييم، ورُبَّما منشور ساخر في تويتر يتصدر الترند. فكِّروا فيها جيِّدًا... ليس كُلُّ (رقمنة) فيها (رحمة).
المنتصر بن زهران الرقيشي
كاتب عماني ـ الاتصالات الدولية والعلوم السياســـــية مدرب متعاون في تنمية مهارات المدربين (TOT) @mumtaserzr