الأربعاء 02 يوليو 2025 م - 6 محرم 1447 هـ
أخبار عاجلة

في العمق: ما دور التعليم فـي تعزيز الترابط الأسري والاجتماعي؟

في العمق: ما دور التعليم فـي تعزيز  الترابط الأسري والاجتماعي؟
الثلاثاء - 01 يوليو 2025 05:39 م

د.رجب بن علي العويسي

يُمثِّل التَّرابط الاجتماعي بحسب تعريف المركز الوطني للإحصاء والمعلومات في «استطلاع التَّرابط الاجتماعي بَيْنَ العُمانيِّين - 2024» الَّذي نفَّذه المركز في عام 2023، بأنَّه: مشاعر التَّرابط المتبادل في العلاقات الاجتماعيَّة، وما تقتضيه من تضامن عاطفي واجتماعي يظهر في معتقدات ومشاعر وسُلوكيَّات أفراد المُجتمع. ويعكس هذا المؤشِّر مستويات مُتعدِّدة للتَّرابط، تبدأ من الأُسرة الصَّغيرة الَّتي يعيش أفرادها في منزل واحد، وتشمل التَّرابط بَيْنَ الأقارب، وصولًا إلى التَّرابط بَيْنَ أفراد المُجتمع ككُلٍّ. وقد بَيَّنَتْ نتائج الاستطلاع أنَّ (81%) من العُمانيِّين يرَون أنَّ هناك ترابطًا اجتماعيًّا في المُجتمع العُماني، فيما بلغتْ نسبة التَّرابط داخل الأُسرة (87%)، ونسبة التَّرابط بَيْنَ الأقارب (86.4%)، أمَّا نسبة التَّرابط المُجتمعي فقد بلغتْ (55.9%). وبالرّغم من الملاحظات الَّتي قد تُثار حَوْلَ شموليَّة الاستطلاع وتمثيله لمُجتمع سلطنة عُمان، ومدَى حضور التَّوصيات والمقترحات الَّتي خرج بها كنتاج للتَّحليل، أو من حيثُ طبيعة اختيار العيِّنة والَّتي شملتِ المواطنين في سلطنة عُمان من الفئة العمريَّة (18) سنَة فأكثر، وفْقَ أُسلوب العيِّنة العشوائيَّة البسيطة، ومراعاتها لكافَّة المحافظات والمستويات التَّعليميَّة والفئات العمريَّة، حيثُ بلغ حجمها (1500) فرد عَبْرَ المقابلات الهاتفيَّة أو الاستبانة الإلكترونيَّة، إلَّا أنَّه في عمومه يُعطي مؤشِّرًا إيجابيًّا حَوْلَ موقع التَّعليم في تشكيل الوعي الجمعي المُجتمعي وضرورة قيام مؤسَّساته بدَوْر أكبر في تعظيم وتأصيل قِيمة التَّرابط الاجتماعي. إنَّ التَّعليم رابطة اجتماعيَّة أصيلة تُسهم في حفظ معادلة التَّغيير، وضمان كفاءة منظومة الحقوق والمسؤوليَّات والواجبات الأُسريَّة والاجتماعيَّة، وفَهْم النسبيَّة والثَّبات في قِيَم الأُسرة ومبادئها وأخلاقيَّاتها. يتمُّ ذلك عَبْرَ أُطر مُحدَّدة، وأنماط سُلوكيَّة تُعَبِّر عن استمراريَّة منهج الأبوَّة في الرِّعاية والتَّربية، وكفاءة المتابعة والنُّصح، والعدالة والمساواة، وسُلوك البنوَّة في التَّقدير والاحترام، والبِر والإحسان، والثِّقة، وحسِّ الالتزام، والسَّمع والطَّاعة في غير معصية. وبهذا يمارس التَّعليم دَوْره في بناء مرتكزات هذه المعادلة، وتوفير أدوات تقييم سُلوك الأبناء في الامتثال لها، وترسيخ آليَّات التَّفاعل معها، وتطبيقها في ممارسات التَّعليم والتَّعلُّم. وفي ظلِّ ما يحتكم إِلَيْه التَّعليم من مبادئ، وما يؤطِّره من تشريعات، ويؤسِّسه من ثقافة راقية قائمة على حُسن العشرة والتَّعامل، ومنهج الأخوة والتَّسامح، وتعزيز ثقافة الذَّوق، ومحطَّات العطاء الذَّاتي، وما تُمثِّله مناهجه من فرص لقراءة واعية لنهجِ السَّماء، وسِيرة سيِّد المرسلين، وقصص النَّجاح الَّتي رسمها السَّلف الصَّالح في بناء الأُسرة، ورعاية الأبناء، واحترام الوالدين وبِرّهما، وروح المودَّة والرَّحمة والأُنس بَيْنَ الزَّوجين، وقِيَم التَّعاون والمشاركة بَيْنَ الإخوة؛ يعوَّل على التَّعليم في إدارة هذا الملف بمهنيَّة عالية. إنَّ ميزة الاحتواء والتَّأثير الَّتي يُحدثها التَّعليم، عَبْرَ اختيار الأدوات المناسبة في التَّعامل مع الإشكاليَّات الأُسريَّة، والتَّخطيط النَّوعي لجودة حياة الأبناء، تنعكس مباشرة على سُلوكيَّات الطَّلبة وأفكارهم وقناعاتهم. فتصنع المدرسة والجامعة في بنيتها المعرفيَّة والأدائيَّة معالِم الأُسرة الواحدة في توادِّها وتراحمها وتعاطفها، وتؤصِّل في الطَّلبة روح المسؤوليَّة والمبادرة، والمنافسة فيمن يخدم الآخر ويرعى مصالحه، بما ينعكس على سُلوكهم مع أُسرهم، وتعاطفهم معها، وتفاعلهم مع منظومة الأوامر والنَّواهي، والحوافز والمحاسبيَّة، في ظلِّ التَّأصيل الدِّيني لها، ليُنتجَ جيلًا متزنًا يتعاطى مع تفاصيل الحياة بهدوء وسكينة، ويمنح الأمل والتَّجديد الأُسري مكانته في قاموسهم الحياتي. ورغم ما تتضمنه المناهج الدراسيَّة والأنشطة التَّعليميَّة من مفاهيم تتعلق بالأُسرة وآليَّات بنائها، إلَّا أنَّنا بحاجة اليوم إلى تلمُّس فعلي لمحور التَّغيير في صياغة الممارسة التَّعليميَّة الموجَّهة نَحْوَ بناء الأُسرة، وإعادة إنتاج أشكالها التعبيريَّة ونماذجها التطبيقيَّة بصورة أكثر كفاءة في المحتوى، وفلسفة التَّعلُّم، وطرائق التَّدريس، وقصص النَّجاح، وتأطير مساحات التَّفاعل الأُسري التَّعليمي، وزيادة منصَّاتها الإعلاميَّة، التَّواصُليَّة، الحواريَّة، التشخيصيَّة، الإثرائيَّة والعلاجيَّة، لصناعة بيوت مطمئنَّة تعيش السَّعادة وتلتحف الأمان وتمارس المسؤوليَّة وتصنع القدوات. من هذا المنطلق، يُشكِّل التَّعليم الإطار الَّذي يوجِّه بوصلة العمل الأُسري، ويؤصِّل الحُب والمودَّة بَيْنَ أفراده، ويبني أخلاقيَّات الوعي بأنظمة الأُسرة وقوانينها وتشريعاتها، كما يرسم سيناريو المستقبل لمتطلبات الأُسرة النَّاجحة، ويَضْمن لها شرف الحياة النَّبيلة في هدوئها وصفائها، والتزامها واعترافها بحقوق الآخرين من أفراد الأُسرة والأرحام والجيران، بعيدًا عن شحنات السلبيَّة والأحقاد، أو عبارات الشَّتم والسّباب، أو مسبِّبات الصّراخ والإزعاج. كما أنَّ البحث عن تدابير وقائيَّة عَبْرَ مؤسَّسات الدَّولة، وسنَّ تشريعات ضابطة للتَّعامل مع المؤثِّرات والظَّواهر السلبيَّة والتَّحوُّلات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، باتَ أمرًا ضروريًّا لحماية البناء الأُسري من الانتهاكات أو الانتكاسات. وقد أشار عاطر التَّوجيه السَّامي لجلالة السُّلطان إلى ذلك حين قال: «تربية الأبناء لا تتمُّ عَبْرَ شبكات التَّواصُل الاجتماعي، بل هي جزء من أصل المُجتمع العُماني، إذ عِندَما يتشرب أبناؤنا عاداتنا وتقاليدنا والتَّمسُّك بالأُسرة والمُجتمع.» ما يضع منظومات التَّعليم والأُسرة والتَّوجيه والوعظ والتَّشريعات أمام إيجاد توأمة ذكيَّة بَيْنَ الاستفادة من التقنيَّة في دعم الأُسرة، وبَيْنَ الحفاظ على خيوط التَّرابط والتَّكامل الممتدَّة من تراث الأجداد وقِيَم الآباء. وجاء في خِطاب جلالة السُّلطان المُعظَّم في دَوْر الانعقاد الأوَّل لمجلس عُمان في دَوْرته الثَّامنة في الرَّابع عشر من نوفمبر لعام 2023 جاء ما نَصُّه: «... إلى جانب الاهتمام بالأُسرة؛ لكونها الحصن الواقي لأبنائنا وبناتنا من الاتِّجاهات الفكريَّة السلبيَّة، الَّتي تخالف مبادئ دِيننا الحنيف وقِيَمنا الأصيلة، وتتعارض مع السَّمْت العُماني الَّذي ينهل من تاريخنا وثقافتنا الوطنيَّة». إيمانًا من جلالته بأنَّ سلامة الأُسرة وصلاحها وقوَّة التزامها بالمبادئ والموجِّهات، وحفاظها على الثَّوابت والأولويَّات، مرتكزات تَضْمن لها الرِّيادة والقيادة، وتعزيز قدرتها على رسم معالم الطَّريق لحياة هانئة هادفة للأجيال. ولا بُدَّ أيضًا من إعادة قراءة وتصحيح المفاهيم والمصطلحات المغلوطة الَّتي يتداولها الشَّباب، والَّتي قد تُستخدم كمدخل لتقويض صورة البناء الأُسري، من حيثُ عدم استساغة العيش في جلباب الوالديَّة عِندَ بعض الشَّباب، إذ يرون فيها تقييدًا لحُريَّاتهم، ومنعًا لهم من فرص الاستمتاع بحقوقهم، بما يضع الجهات المعنيَّة بالدَّولة أمام مراجعة واقعيَّة للملف الأُسري بكُلِّ تفاصيله، وتوظيف المفاهيم والمفردات المرتبطة بالطُّموح والاحتياج والاستقلاليَّة والحُريَّة والصَّلاحيَّات والتَّمكين والثِّقة كمنطلقات لاستمراريَّة نجاح الأُسرة وقدرتها على التَّكيُّف مع الواقع المُتجدِّد، ومساهمتها في إنتاج ثقافة مُجتمعيَّة قادرة على الصُّمود في مواجهة المتغيِّرات المقلقة. وفي السِّياق ذاته، يَجِبُ تشخيص الظَّواهر المنغِّصة للحياة الزوجيَّة مثل الطَّلاق والخُلع، والوقوف على أسبابها، واقتراح أدوات مجرَّبة ومحكمة للحدِّ مِنْها عَبْرَ التَّهيئة المُجتمعيَّة، والبرامج التَّوعويَّة، التَّعليميَّة، التَّدريبيَّة، الدِّينيَّة، والإعلاميَّة، لتصحيح الفَهْمِ حَوْلَ الزّواج، وجعله مشروعًا حضاريًّا للرَّجُل والمرأة يقوم على المسؤوليَّة، والرَّحمة، والمشاركة، والتَّفاعل الإيجابي، بعيدًا عن التَّصوُّرات الخاطئة الَّتي تروّج للطَّلاق كمظهر من مظاهر التَّحرُّر أو الاستقلال. ويؤكِّد هذا كُلُّه على أهميَّة دَوْر التَّعليم والإعلام ومنصَّات التَّواصُل والخِطاب الأُسري في تصحيح الأفكار السلبيَّة لدَى الأبناء، وضرورة وجود سياسات ضبطيَّة أُسريَّة، وتشريعات تحفظ للأُسرة موقعها في المُجتمع، وتوفِّر لها مقوِّمات النَّجاح، بقواعد قانونيَّة محاكيَّة ومجسِّدة الواقع. كما أنَّ تعزيز المحافظة على الأُسرة العُمانيَّة يتطلب تطويع القوانين والأنظمة في سبيل استدامتها (قانون الأحوال الشخصيَّة)، والحدّ من الممارسات العرفيَّة والسُّلطويَّة الَّتي تسلب أحَد طرفَي العلاقة الزوجيَّة مفهوم الحُريَّة، وتتجاهل حقَّه في المشاركة واتِّخاذ القرار، بما يفرض على الجهات المختصَّة سدَّ الفراغات التَّشريعيَّة، وتوفير الحماية للطَّرف المتضرِّر. يأتي ذلك بالتَّوازي مع أهميَّة إعادة تأصيل المفهوم الدِّيني والتَّربوي للزّواج، وتبسيطه، وتعميم فهمه في سنٍّ مبكرة، لِيتعلمَ النَّشء متطلباته، ويستعدَّ لتحمُّل تبعاته، ويعظِّم شعيرته، ويحافظ على أصوله، بعيدًا عن مظاهر التَّباهي بالطَّلاق أو اعتباره مخرجًا للحُريَّة. بالإضافة إلى تعزيز الفرص والمحفِّزات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والماليَّة والإسكانيَّة الَّتي تُسهم في استقرار الزوجين، وتدعم بناء مستقبلهما المشترك، من خلال برامج مبتكرة تراعي احتياجات المتزوجين حديثًا أو المُقبلين على الزّواج. أخيرًا، فإنَّ الواقع الأُسري والاجتماعي اليوم بحاجة إلى نهضة حقيقيَّة تُعِيد للأُسرة هيبتها، كما تؤصِّل لهندسة بناء الأُسرة، وتُعزِّز عُرى التَّرابط والتَّكامل بَيْنَ عناصرها ومُكوِّناتها، وتؤصِّل فِقه الاستقرار الزّواجي من خلال استنطاق قِيَم الحياة الزّوجيَّة، بما تحمله من خُلق التَّواصي بالحقِّ والتَّواصي بالصَّبر، واحترام الإرادة، وتقدير الآخر، وضبط النَّفْس، وإدارة المشاعر، واستشعار عظمة المسؤوليَّة، أساسها العدل والمساواة ورعاية الآخر والاعتراف بحقوقه وإدراك واجباته، ومراعاة ظروفه، وقَبول العذر مِنْه، وإبراز مناقبه، والعفو عن زلاته وأخطائه، في إطار من الحُب والودِّ والتَّعاون، والثِّقة المتبادلة، والمكاشفة، والوضوح، والاستشارة، والإفصاح.

د.رجب بن علي العويسي

[email protected]