الأربعاء 02 يوليو 2025 م - 6 محرم 1447 هـ
أخبار عاجلة

نعيش الهاتف.. لا نعيش الحياة!

نعيش الهاتف..  لا نعيش الحياة!
د. يوسف بن علي الملا
الاثنين - 30 يونيو 2025 05:41 م

د. يوسف بن علي الملَّا

20

في كُلِّ صباح، نفتح أعْيُننا على ضوء شاشة صغيرة تضيء قَبل أن تضيء شمس اليوم، نمدُّ أيدينا نَحْوَ الهاتف الذَّكي كما لو أنَّه امتداد لذواتنا. وهكذا قد تبدو هذه اللَّحظة عابرة، لكنَّها تختصر سُلوكًا جماعيًّا يؤكِّد أنَّ العالَم يعيش في قبضة الإدمان الرَّقمي. رُبَّما الآن لم يَعُدْ ذلك الهاتف وسيلة، بل أصبح بيئة نَفْسيَّة موازية، وحالة ذهنيَّة تفرض نمطًا حياتيًّا ـ للأسف ـ يتسلل إلى العلاقات والمشاعر والنَّوم والانتباه وحتَّى إدراك الذَّات. وهنا تُشير الدِّراسات إلى أنَّ متوسِّط استخدام الفرد للهاتف الذَّكي يتجاوز الأربع ساعات يوميًّا، مِنْها ما يقارب ستِّين بالمئة لأغراض غير ضروريَّة. هذا التَّداخل المكثَّف مع التكنولوجيا ـ إن صحَّ لي القول ـ قد يبدو من مظاهر التَّقدُّم، لكنَّه في الحقيقة يرتبط بارتفاع معدَّلات القلق الاجتماعي، وضعف التَّركيز، بل واضطرابات النَّوم، ونقص التَّفاعل الإنساني! ناهيك عن دراسة أخرى نُشرت في عام ٢٠٢٣م بإحدى مجلَّات الطِّب النَّفْسي تؤكِّد أنَّ الاستخدام المفرط للهواتف الذَّكيَّة مرتبط بتغيُّرات في الفص الجبهي للمخ، وهو المسؤول عن ضبط السُّلوك والتَّخطيط واتِّخاذ القرار، ممَّا يُعزِّز فرضيَّة الإدمان السُّلوكي الرَّقمي. ولِكَيْ أكونَ دقيقًا، فالإشكاليَّة ليسَتْ في الهاتف نَفْسه، بل في بنية التَّطبيقات المصمَّمة لِتَحفيزِ الدِّماغ على إفراز الدوبامين، عَبْرَ التَّنبيهات الفوريَّة، والتَّصفُّح اللانهائي، ومكافآت الإعجاب والمشاركة. هذه البنية تُحاكي دائرة المكافأة العصبيَّة كما تفعل المواد المخدِّرة. وهنا فإنَّ الجمعيَّة الأميركيَّة لعِلم النَّفْس وصفتِ الإفراط في استخدام الهاتف الذَّكي بأنّه: مؤشِّر جديد لسُلوكيَّات الإدمان المعتمِد على التَّحفيز السَّريع! وعَلَيْه، فإنَّه عِندَما ننظر من النَّاحية الطبيَّة، نلاحظ ظهور أعراض الإدمان الرَّقمي في عدَّة صوَر: أوَّلها: الانشغال المستمر بالشَّاشة حتَّى في المواقف الاجتماعيَّة أو المهنيَّة المُهِمَّة. وثانيها: الانزعاج والقلق عِندَ فصل الهاتف. وثالثها: فشل محاولات تقليل الاستخدام رغم الوعي بالمضار. وحقيقة الأمْر هذه الأعراض لا تختلف جوهريًّا عن أعراض الإدمان الأخرى، وتؤثِّر في المراهقِين بدرجة أخطر؛ نظرًا لمرونة أدمغتهم العصبيَّة... فكيف بِك بالأطفال؟! خصوصًا وأنَّ دراسة حديثة بعام ٢٠٢٤م أظهرتْ أنَّ طلاب المدارس الَّذين يستخدمون هواتفهم لأكثر من ثلاثة ساعات يوميًّا يعانون من ضعف في الأداء المدرسي، وتشتُّت في الانتباه، وارتفاع في معدَّلات العُزلة والانغلاق. أمَّا إذا ما تحدَّثت عن الأثَر الاجتماعي فهو لا يقلُّ خطرًا! فالهاتف الذَّكي أصبح «ملجأً نَفْسيًّا سهلًا، يهرب إِلَيْه الفرد من المُشْكلات أو من الصَّمتِ أو من مواجهة الذَّات. وبشكلٍ جدِّي، هذا اللُّجوء يخلق تباعدًا في الرَّوابط العاطفيَّة، وتراجعًا في الحضور الحقيقي، ويؤدي إلى ما يسمِّيه الخبراء الغياب الذِّهني، وهو ـ إن استطعت وصْفَه ـ بالحضور الجسدي المقترن بانفصالٍ نَفْسي وانتباهي عن الواقع. أمَّا عن الأثر الجسدي، فقد أصبح ما يُعرف بـ(عُنق الهاتف) و(إجهاد الإبهام) من المُشْكلات العضليَّة المتكررة لدَى الشَّباب. وتُشير تقارير الجمعيَّة الأميركيَّة للعلاج الطَّبيعي إلى تزايد حالات تقوُّس العمود الفقري واضطرابات النَّوم بسبب الضَّوء الأزرق المنبعث من الشَّاشات، والَّذي يعطِّل إفراز الميلاتونين، ويؤثِّر سلبًا على دَوْرة النَّوم الطَّبيعيَّة، خصوصًا عِندَ الاستخدام اللَّيلي. وهذا يأخذنا إلى الحلول الطبيَّة والسُّلوكيَّة والَّتي هي حقيقة كثيرة، ولكن لا تتمثل في الانفصال التَّام، بل صدقًا في الاستعادة الواعية للسَّيطرة. ويشمل ذلك خطوات مثل تحديد أوقات استخدام محدَّدة، إزالة التَّطبيقات غير الضروريَّة، تخصيص أوقات خالية من الهاتف خلال اليوم، كوجبة الإفطار أو ما قَبل النَّوم، حتَّى أيضًا الرُّجوع إلى استخدام أجهزة بديلة للهاتف الذَّكي، نعرفها جميعًا بالهواتف البسيطة، فقط للمكالمات والرَّسائل. ختامًا، أعتقد هنا ومن منظور فلسفي: أنَّ ذلك الهاتف الذَّكي يحمل انعكاسًا لهشاشة الإنسان أمام المكافآت الفوريَّة. نحن لا نُدمن الهاتف ذاته، بل رُبَّما نُدمن المعنى الَّذي نبحث عَنْه من خلاله، كتأكيد الذَّات، والهروب من الوحدة، أو حتَّى قتل الوقت. لكن حقيقة المفارقة هنا: أنَّ هذا الهروب يؤدي إلى مزيدٍ من الفراغ، لا إلى إشباع! لذلك نحن بحاجة إلى استعادة علاقتنا بالتكنولوجيا كوسيلة لا كهُوِيَّة..!

د. يوسف بن علي الملَّا

طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي

[email protected]