أجلس هذه الأيَّام أتابع قرار فرض ضريبة الدَّخل على الأفراد في سلطنة عُمان وكأنَّني أقرأ سطرًا جديدًا في كِتاب طويل عن تحوُّل المنطقة كُلِّها من مورد الرّيع إلى تنوُّع مصادر الدَّخل الَّتي تصنع الثِّقة، بنسبة (٥٪) فقط لِمَن يتجاوز دخله (٤٢) ألف ريال سنويًّا، تفتح السَّلطنة بابًا كان مغلقًا لِعُقود، وتقول بلُغة هادئة إنَّها لن تعتمدَ على ما في باطن الأرض وحْدَه، وهي رسالة تتَّسق مع التَّوَجُّهات المتكاملة للاقتصاد العُماني، وبرغم أنَّني مُقيم، إلَّا أنَّ جزءًا من انتمائي يظلُّ مرتبطًا بهذه البلاد الطيِّبة وشَعبها الكريم، لذا أحرص على متابعة التَّفاصيل، مدركًا تمامًا أنَّ أيَّ قرار مالي في دَولة مِثل عُمان، بتركيبتها السكَّانيَّة وخريطة اقتصادها، يترك أثرًا غير مباشر على الجميع، مواطنًا كان أو مقيمًا. ومن هذا المنطلق شعرتُ بأنَّ من واجبي قراءة هذا التَّغيير من زوايا أوسع، فهل هو خطوة اضطرار أم اختيار؟ وهل يُمكِن تحويله من خصم مباشر على الدَّخل إلى إضافة غير مباشرة لطريق الثِّقة والاستقرار؟ إنَّ قراءة تجارب الآخرين تجعل من السُّؤال العُماني أكثر وضوحًا، ويُبدِّد العديد من المخاوف الَّتي تداول الآن، فهناك دوَل إسكندنافيَّة مثل السويد والنرويج والدنمارك لم تبقِ الضَّرائب أرقامًا على الورق، بل حوَّلتها إلى عَقد اجتماعي تفتخر به أمام شعوبها، على الرّغم من الارتفاع الكبير لهذه الضَّرائب، الَّذي لا يُمكِن مقارنته بالنّموذج العُماني الحالي، فدَولة مثل السويد رفعتِ الضَّرائب حتَّى قاربتْ نصف الدَّخل الشَّخصي، لكنَّها أعطتِ المواطن في المقابل مدارس تُعَدُّ من بَيْنَ الأرقى في العالَم، ورعاية صحيَّة تكاد تنزع القلق من القلوب، ودَولة رفاه تحميه من البطالة والفقر والمرض، كذلك النرويج الَّتي استخدمتْ ضرائب الدَّخل لبناء صندوق سيادي أصبح اليوم الأكبر في العالَم بأكثر من تريليون ونصف دولار، يدعم الأجيال القادمة من فائض اليوم، والدنمارك الَّتي بلغتْ نسبة الضَّريبة (38%) لدَيْها نجحتْ في أن تصنعَ من الضَّريبة أداة لتقويةِ الرَّوابط بَيْنَ الدَّولة ومواطنيها، فلم يَعُدِ النَّاس هناك يتهربون مِنْها، بل يتباهَون بأنَّ ما يدفعونه يَعُود عَلَيْهم رفاهًا وكرامة، النّموذج مُشرِق لكن لا ينسخ حرفيًّا.. ولعلَّ ذكاء السَّلطنة هو في أن تبدأَ بنسخة خفيفة محسوبة تُناسب قدرات مُجتمعها وخصوصيَّة اقتصادها. وحتَّى أكُونَ أكثر صراحةً، فالمعادلة ليسَتْ سهلةً، فأيُّ نظام ضريبي بلا أرضيَّة ثقة يتحوَّل بسرعة من (مشاركة) إلى (جباية)، يرفضها النَّاس أو يبحثون عن مخرجٍ مِنْها. وهنا يظهر التَّحدِّي الحقيقي، وهو كيف تقنع الشَّرائح الَّتي ستدفع هذه النِّسبة بأنَّ أموالها ستَعُود إِلَيْها في صورة خدمات وبنية أساسيَّة ومشاريع تولِّد فرصًا حقيقيَّة؟ التَّحدِّي الآخر هو توسيع الوعي من منطلق أنَّ الضَّريبة في ثقافتنا العربيَّة، والخليجيَّة تحديدًا، مفهوم جديد نسبيًّا، فقَدْ ظلَّ الاعتماد لِعُقودٍ على الدَّولة الَّتي تعطي بلا مقابل مباشر تقريبًا، ومع الوقت صار من الصَّعب إقناع النَّاس أنَّ بعض الخدمات يحتاج إلى مساهمة مباشرة، لذا رُبَّما يكُونُ الأهمُّ من الرَّقم نَفْسه هو ما سيُرافقه من شفافيَّة وإيضاحات وحملات تشرح وتكشف أين تذهب هذه الرِّيالات؟ وأين تُصرف؟ فلو نجحتْ هذه الخطوة سيكُونُ الرَّقم (٥٪) مجرَّد بداية، لكن بداية صحيَّة لِعَقدِ اجتماعي جديد يربط المواطن والدَّولة بسلسلة من الحقوق والواجبات لا انقطاع فيها، ويخلق نموذجًا جديدًا لِدَولةِ الرَّفاهية الَّتي ستُرضي الشَّعب العُماني بالتَّأكيد. أمَّا من موقعي كمُقِيم فلا أملك إلَّا أن أنظرَ إلى التَّجربة من شرفة المراقب الَّذي يتمنَّى الخير للبيت الَّذي يسكنُه، فالضَّريبة إذا أُحسن استثمار عوائدها، فستخلق اقتصادًا أكثر تماسكًا، وحين تتوسَّع الخدمات الَّتي يستفيد مِنْها الجميع بلا استثناء، وهو ما سيشعر المواطن بالطُّمأنينة، وأنَّ النِّظام المالي لِدَولته باتَ يملك بدائل ذكيَّة لأيِّ هزَّات في أسعار النِّفط أو الأسواق العالَميَّة، خصوصًا إذا ما ارتبطتِ الضَّريبة بخدمات نَوعيَّة، بطُرق معبَّدة، بمستشفيات متطوِّرة، بفرص عمل تخلق لجيل جديد، فإنَّها تتحوَّل من رقم يقتطع من الطَّبقة العُليا إلى قِيمة ترد للجميع، فحَدُّ الـ(42) ألف ريال على ما أزعم يظلُّ يحمي الطَّبقة المتَوَسِّطة، ولا يثقل كاهلها بأعباء إضافيَّة.
إبراهيم بدوي