في أحد الأيام، وأثناء سنوات دراستي للدكتوراه في القاهرة، كنت مدعوة على الغداء بحي المعادي بمنزل الكاتبة فتحية العسال (رحمة الله عليها)، التي أهدتني في يوم ما سيرتها الذاتية المدونة في خمسة أجزاء من كتابها (حضن العمر). كان من المفترض أن أمر على سميحة أيوب ظهرًا للذهاب سويًا إلى فتحية العسال، إلا أنني في ذلك اليوم كان لديَّ موعد مع أستاذي الدكتور جابر عصفور (رحمة الله عليه) بمكتبه صباحًا في الزمالك. كان الأخير حينئذ أمينًا عامًا لوزارة الثقافة في مصر، فنتيجة لكثرة مواعيده، تأخرت عنده، واتصلتُ بسميحة كي أوضح لها الموقف وبأنني سأتأخر عن موعدي، غير أن سميحة آثرت الانتظار. وبمجرد أن وصلت إليها في الثالثة عصرًا، قلت لها: سميحة، (أنا مش عارفة أقول لك إيه؟ أنا أ...) قاطعتني وبحدة غير معهودة منها، وقالت لي: (ما تقوليش حاجة وما تتأسفيش، إوعي تتأسفي في أي موقف انت مش غلطانة فيه، خلي اعتذارك دايمًا عزيز عليك. انت فرضًا حتى لو ما اتصلتيش بي من مكتب الدكتور جابر، كنت حكون قلقانة عليك أكيد، لكن ما كنتش حغلطك لأني عارفة طبعك ودقتك في المواعيد).
دم بدماغ
أثناء معرض القاهرة الدولي للكتاب، وبعد أن قدمت قراءة نقدية لسيرة سميحة أيوب الذاتية المدونة في كتابها (ذكرياتي)، ونحن في سيارتي بطريق العودة، قلت لسميحة: أشكرك يا سميحة على حبك وأنك منحتيني الفرصة لتقديم ورقة نقدية عن كتابك أمام جمهورك العريض، لكنني أشعر أيضًا أن ربما هذا أغضب بعض الكُتّاب من محبيك، إذ كان من الممكن أن يقوم بهذا واحد منهم، لا سيما وأنهم جميعهم معروفون وفطاحل. ثم واصلت كلامي بقولي: والدليل أن واحدًا منهم علق وقال لك مازحًا (يعني يا مدام سميحة يا أستاذتنا، سبت مصر كلها وجيبتي بنتك اللي من سلطنة عُمان علشان تقدم لكتابك قراءة نقدية). قاطعتني بقولها: (على فكرة هو ماكنش بيهزر، هو كان بيعنيها، أنا بفهم في الناس كويس قوي، وكان قليل الذوق ولما قال لي كلمة (بنتك) لأنه كان قصده يصغرك، علشان كده أفحمته في الرد لما قلت له: (بس مش أي بنت دي غوووووول). ثم واصلت حوارها بقولها: (لكن، سيبك انت من الكلام ده، أنا عايزاك تعرفي إن اللي خلاني أقول لك تقدمي ورقة عن كتابي مش لإني بحبك وبس، صحيح أنا بحبك، والدليل على ذلك تعمدت أن أحط صورتك في كتابي، وتعمدت إن أخلي صورتك مع نادية لطفي انتوا الاثنين دماغ وأنا عارفة إنك بتحبيها . لكن مش الحب بس اللي خلاني أقول لك تقدمي ورقة عن كتابي، فالأهم، هو أن دماغك بتعجبني، وأنا كنت عارفة من الأول لما أقول لك تقدمي ورقة عن كتابي حتكون الورقة تقيلة، والدليل على ذلك النقاش عن الكتاب كان حاميا بعد ورقتك، وكمان أنا كنت عايزة دم جديد أقدمه للناس، بس مش أي دم، دم بدماغ. باختصار، أنا مقتنعة بيكي، ولو مش مقتنعة ما كنتش حعمل ده معاكي. وكفاية كده كلام وركزي في السواقة لحسن نعمل حادثة).
تليغراف
بعد نقل خدماتي من جامعة السلطان قابوس إلى مجلس البحث العلمي، فوجئت ببريد الجامعة يتصل بي ليخبرني بأن هناك تليغراف خاص بي أُرسل من مصر. تعجبت من كلمة (تليغراف) التي بدت إليَّ وكأنها خارج نطاق الزمن، فهذه الكلمة لم أسمعها سوى في الأفلام المصرية القديمة بالأبيض والأسود. علاوة على ذلك، لم أستقبل تليغرافًا في حياتي. حين تسلمتُ التليغراف إبان شهر أغسطس 2011، اكتشفت أنه من سميحة أيوب تعزيني في والدي ناصر سيف البوعلي الذي كان قد وافته المنية في 30 يوليو من العام ذاته.
اتصلتُ بسميحة أيوب كي أشكرها على تليغراف العزاء، وفي ذات الوقت مازحتها بقولي: معقولة يا سميحة، في حد بيعزي حد في سنة 2011 بتليغراف؟ إنت قديمة قوي يا سميحة. فكان ردها: (أعمل إيه أنا عرفت إن بابا مات وعايزة أعزيك، والورقة اللي كان عليها نمرة تليفوناتك مش لاقياها، ولا حتى الكارت بتاع مكان شغلك الجديد لقياه، فقلت أسلم وأسرع طريقة أن أبعث تليغراف للجامعة، أهو معلم ثابت، وعمر مكانه ولا عنوانه حيتغيروا، وانت كنت شغالة في الجامعة قبل كده). فعلقتُ قائلة لها: لكن تعرفي يا سميحة، حقيقي، أنا لما فتحت تليغرافيك وقعه على نفسي كان مثل البلسم، ابتسمتُ لأنه ذكرني بزمن الرومانسية والفن الجميل. فقالت بثقتها الذاتية وبخفة ظلها المعهودة حين تريد أن توبخني: (شوفتي بقى؟ أهو عزاء سميحة أيوب غير أي عزاء، ووقعه عليك مختلف إزاي. علشان تبطلي تتريقي على التليغراف، ماله التليغراف؟ زي الفل، أهو رسم البسمة على وِشك، وانت في عز أحزانك) «تتريقي أي تسخري من» .
موقف يتكرر
في شهر يناير 2004، ذهبت لزيارة سميحة أيوب، وكانت معي قريبتي رنا، حيث دخلنا من باب الشقة الذي في الطابق العلوي، والذي يؤدي مباشرة إلى المكتبة ومكان جلوسها المعتاد وغرفة التلفزيون. استقبلت سميحة أيوب قريبتي رنا بترحاب ودفء شديد وقالت لها: (لفي في البيت وشوفي زي ما إنت عايزة، أهلاً بيك). قلت لسميحة: ياااه يا سميحة، جملتك رجعتني لسنة 1997م، لما دخلت بيتك أول مرة. فعلقت بنبرة بها صدق عميق حين قالت لي: (والله من غير مجاملة، انتو كلكم عيلة تتحبوا).
نبرة لأول مرة أسمعها
في إحدى زياراتي لسميحة أيوب، وأثناء حكيها لي للخلافات التي كانت بين ابنها علاء وطليقته، لمست نبرة في صوتها كنت لأول مرة أسمعها، لذلك قلت لها بصوت مرتفع وأنا أرفع يديَّ إلى الأعلى: الله أكبر يا سميحة، والله أنا لا أصدق ذاتي اليوم. أنا لست أمام سميحة أيوب التي أعرفها ، بل أمام حماة وأم مصرية إلى حد النخاع حين تدافع عن ابنها. فقاطعتني، ملوحة بكفها وبصوت انفعالي مرتفع قالت : (بس بس ما تقليش حمى، وانت كده لسة واصلة من السفر ومش عارفة حاجة). فسكتُ حتى لا أثير حفيظتها.
اللقاء الأخير
آخر لقائي بسميحة أيوب كان أواخر شهر أكتوبر 2024م. حين ذهبت لزيارتها في زيارة عادية، كان الوقت قبل صلاة المغرب حيث أتذكر جيدًا أن آذان المغرب رُفع وأنا عندها حينئذ استأذنت مني سميحة كي تصلي المغرب وقالت لي : ( انت مش حتصلي؟) وبالفعل صليت المغرب معها في غرفة نومها . بعدها واصلنا جلستنا وأتذكر جملتها التي كررتها أثناء الحديث معي أكثر من مرة حين قالت : (أنا زاهدة تمامًا عن كل شيء، وبشكر ربي أنه إداني كل حاجة حلوة في حياتي). هاتفتها بعد ذلك في بداية شهر ديسمبر من العام ذاته كي أودعها، حين قلت لها: أنني مسافرة إلى عُمان، وسأعود إلى القاهرة في منتصف شهر يناير من العام الجديد 2025م، وسأتواصل معها. وكانت آخر جملة سمعتها منها( عبر الهاتف) بنبرتها الدافئة الآمرة الجميلة: (انت ما تتصليش، انت توصلي من المطار على بيتي). آسفًة، حين وصولي إلى القاهرة في 15 يناير وحتى 21 فبراير 2025م، حالت ظروف انشغالي بضيوفي دون زيارتك يا موحه. واسمحي لي أن أناديك بـ (يا موحه)، كما كنت أناديك أحيانًا، وأن أقول لروحك العطرة: سأفتقدك يا حبيبتي، وبرحيلك تركت فراغًا شاسعًا بداخلي، وأعتذر عن قصوري في عدم التواصل معك، والله يجعلك مع الأبرار والصديقين في جنة الفردوس الأعلى.

