شهد المشهد الإعلامي في سلطنة عُمان تحوُّلات لافتة خلال السَّنوات الأخيرة، تمثلت في بروز الإعلام الخاصِّ كقوَّة ناعمة جديدة، بدأتْ تشقُّ طريقها بثبات نَحْوَ التَّأثير والمشاركة الفاعلة في بناء الوعي الوطني والتَّفاعل مع قضايا المُجتمع. ومع صدَوْر قانون الإعلام بالمرسوم السُّلطاني رقم (58/2024) فإنَّ الطموحات والآمال تتَّجه بأن يُسهم قانون الإعلام في تعظيم التنافسيَّة الإعلاميَّة وخلق فرص أكبر للمهنيَّة الإعلاميَّة وتشجيع القِطاع الخاصِّ وأصحاب المبادرات الإعلاميَّة في تنشيط دَوْر الإعلام الخاصِّ الدَّاعم والمساند والمحفِّز لجهود التَّنمية وتحقيق أولويات رؤية «عُمان 2040» في قدرة الإعلام على تحقيق المستهدفات الوطنيَّة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثَّقافيَّة والسِّياحيَّة وغيرها، سواء من حيثُ الوسيلة الإعلاميَّة والمحتوى والنشاط والفعاليَّات والبرامج الإعلاميَّة والدَّوْرات البرامجيَّة والتغطيات للمناشط والفعاليَّات الوطنيَّة، بل تعدَّى ذلك إلى الأسلوب والآليَّات وطريقة وصول الوسيلة الإعلاميَّة إلى الجمهور واستيعابها لآراء ووجهات نظر المعنيِّين والمستفيدين، الأمْر الَّذي أعطى صورة تفاؤليَّة تفاعليَّة للدَّوْر القادم للإعلام الخاصِّ في تصحيح المسار وتقريب الصورة وبناء منصَّات إعلاميَّة حواريَّة تفاعليَّة أكثر قربًا من الجمهور وأكثر التصاقًا بهواجسه وطموحاته وأفكاره، في إطار التزامه معايير الدقَّة والموثوقيَّة والاستجابة والكفاءة والجودة والتَّأثير في المحتوى، ويُسهم في إعادة إنتاج المحتوى الوطني الثَّقافي والاجتماعي خصوصًا ما يتعلق مِنْه بالمواطنة والهُوِيَّة والقِيَم والثَّقافة الوطنيَّة وترسيخ الوعي، وفي الوقت نَفْسه تمكين استيعاب الخبرات والكفاءات الإعلاميَّة الوطنيَّة في مواقع أخرى، وصناعة قيادات ونماذج إعلاميَّة، ومنصَّات إعلاميَّة أخرى تُعزِّز من حضور الوسيلة الإعلاميَّة متنوِّعة المصدر متعدِّدة الفرص، في ظلِّ مرحلة تستدعي رفع مستوى الحراك الإعلامي وإعادة إنتاجه، وتُسهم في مراجعة دَوْر الوسيلة الإعلاميَّة الرسميَّة، بل وفتح آفاق أوسع للإعلام المؤسَّسي والإعلام المتخصص وإعلام المحافظات والإعلام الفردي. ورغم الجدل الَّذي أثارته المادَّة (4) من قانون الإعلام والَّتي نتوقع أن يكُونَ لها تأثيرها على الإعلام الخاصِّ؛ إلَّا أنَّنا نقرأ في مسار الثِّقة الَّتي يُمكِن أن تقدِّمَها اللائحة التَّنفيذيَّة للقانون وروح التَّشاركيَّة والتَّكامليَّة الَّتي تتيح للإعلام الخاص فرص المشاركة في إبداء الرأي واقتراح ما يناسب لسدِّ فجوة الاختلاف والتباينات وترجيح كفَّة الوطن بعيدًا عن الشَّخصنة وسُوء الفهم بما يحافظ على درجة الابتكاريَّة والتَّجديد قائمة ومتناغمة مع طبيعة الدَّوْر القادم للإعلام الخاصِّ كشريك استراتيجي للحكومة. جاء الإعلام الخاصُّ لِيقدِّمَ بديلًا أكثر نضجًا واحترافيَّة. فقَدِ استطاع أن يملأَ هذا الفراغ وسد إشكاليَّة وجود الإعلام المواطن بمهنيَّة عالية، عَبْرَ منصَّات إذاعيَّة وتلفزيونيَّة ومواقع إلكترونيَّة، وفَّر من خلالها محتوى متنوعًا وعميقًا، وخلق مساحة حقيقيَّة للحوار المُجتمعي، وفتح الأبواب أمام مختلف فئات المُجتمع للتعبير عن آرائهم ومناقشة قضاياهم. ذلك أنَّ الإعلام الخاصَّ لم يكتفِ بنقل الأحداث، بل تبنَّى أسلوب التحليل والاستقصاء، وسعى إلى الوصول إلى جذور المُشْكلات وتقديم حلول قابلة للنقاش؛ هذا التحوُّل المبتكرة الَّتي جاء بها الإعلام الخاصُّ جعلتْ مِنْه شريكًا فاعلًا في التَّنمية، لا سِيَّما في ظلِّ توجُّهات «رؤية عُمان 2040»، الَّتي تنصُّ على بناء إعلام مهني يُسهم في الوعي المُجتمعي والتَّنمية الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة. وقد وجد الإعلام الخاصُّ في هذه الرُّؤية إطارًا وطنيًّا يمنحه الشرعيَّة والدَّعم للاستمرار في أداء رسالته. كما مكَّنه ذلك من تبنِّي قضايا مُجتمعيَّة حقيقيَّة، تُشكِّل هاجسًا مُجتمعيًّا كالتَّشغيل والتَّوظيف وقضايا الباحثين عن عمل، والتَّعليم، وتحدِّيات الاستثمار، وارتفاع الأسعار، وغيرها من القضايا الَّتي تمسّ المواطن العادي بشكلٍ مباشر. وعلى الرّغم من التحدِّيات الماليَّة واللوجستيَّة الَّتي يواجهها الإعلام الخاصُّ، مثل ضعف التَّمويل وصعوبة الاستدامة، إلَّا أنَّ ما يتمتع به من مرونة في الإدارة وحُريَّة في الطَّرح وشغف في الابتكار، يجعله قادرًا على تجاوز هذه العقبات، بل وتحويلها إلى فرص للتميُّز. الأمْر الَّذي يضع الحكومة وفي إطار مستهدفات رؤية «عُمان 2040» في صناعة إعلام تنموي رقابي يُعزِّز من قِيَم الرَّقابة والشفافيَّة والنَّزاهة والموضوعيَّة وحمايّة المال العام ومكافحة الفساد في تعظيم دَوْر الإعلام ودعم القِطاع الإعلامي، سواء من خلال تقديم الحوافز، أو تأسيس صندوق وطني لدعم المؤسَّسات الإعلاميَّة، أو عَبْرَ تسهيل الإجراءات المرتبطة بإنشاء وإدارة المؤسَّسات الإعلاميَّة الخاصَّة، وحشد الاهتمام الإعلامي بالمحتوى المحلِّي العُماني الأمْر الَّذي يتطلب إيجاد قواعد بيانات وطنيَّة تُعزِّز من قدرة الإعلام ومؤسَّساته في الوصول إلى الكفاءات الوطنيَّة المُجيدة في المجال. على أنَّ الميزة التَّنافسيَّة للإعلام الخاصِّ النَّاتجة عن مستويات عاليَّة من سرعة الاستجابة والمرونة في استخدام الوسيلة الإعلاميَّة وسرعة تفاعله مع الأحداث، وامتلاكه لخيارات متعدِّدة في توجيه رسالته الإعلاميَّة، جعل مِنْه أكثر قربًا من المواطن، وأكثر قدرة على تمثيل صوته. فقد أصبح المواطن اليوم يرى في الإعلام الخاصِّ منبرًا يطرح مشاكله ويناقش طموحاته، ويستمع إِلَيْه ويشاركه الرَّأي، سواء عَبْرَ الحوارات المفتوحة أو اللِّقاءات المباشرة أو المشاركات الهاتفيَّة في ظلِّ ما يمتلكه الإعلام الخاصُّ من مساحة جيِّدة من الحُريَّة في تناول المواضيع واختيار الأساليب المناسبة لطرحها، ما يجعله في موقع متميِّز يُمكِّنه من تناول القضايا بعُمق واحترافيَّة، من دُونِ أن يتقيَّدَ بالصُّورة النَّمطيَّة الَّتي كثيرًا ما تُقيِّد الإعلام الرَّسمي. كما أنَّ الإعلام الخاصَّ أكثر قدرة على التَّحديث والتَّجديد والتَّفاعل مع التقنيَّات الحديثة في صناعة المحتوى الإعلامي، ممَّا يُعزِّز من انتشاره وتأثيره، خصوصًا بَيْنَ الشَّباب، لذلك لم يَعُدِ الإعلام الخاصُّ مجرَّد ناقل للحدَث، بل أصبح صانعًا للرَّأي العامِّ، ومساهِمًا في تشكيل الثَّقافة الوطنيَّة. لقَدِ استطاع هذا الإعلام أن يواجِهَ المنصَّات الفرديَّة الَّتي تروِّج للسَّطحيَّة والانحرافات الفكريَّة، من خلال تقديم محتوى ناضج، يعكس الواقع، ويُعزِّز الانتماء الوطني، ويواكب تحدِّيات العصر. كما أنَّه أسْهَمَ في تصحيح صورة بعض مؤسَّسات الدَّولة، من خلال تقديم منابر مفتوحة للحوار بَيْنَ المسؤول والمواطن. أخيرًا، يُقدِّم الإعلام الخاصُّ في سلطنة عُمان اليوم نماذج وطنيَّة رائدة، استطاعتْ خلال وقتٍ قصير أن تُحققَ حضورًا نَوعيًّا في السَّاحة الإعلاميَّة، من خلال ما تُقدِّمه من محتوى يرتبط بقضايا الوطن وهموم المواطن. فالمؤسَّسات الإعلاميَّة الخاصَّة المعروفة لدَى الجمهور المتابع أصبحتْ أمثلة حيَّة على ما يُمكِن أن يُقدِّمه الإعلام الخاصُّ من محتوى جادٍّ واحترافي. وهي تُمثِّل اليوم صوتًا مؤثرًا يعكس تطلُّعات المُجتمع ويُعَبِّر عن طموحاته في ظلِّ المتغيِّرات الوطنيَّة والإقليميَّة والدوليَّة. الأمْر الَّذي أسْهَم في تعزيز ثقة المواطن بالإعلام، وفي الوقت نَفْسه أعاد تعريف دَوْر الإعلام في المُجتمع؛ باعتباره خيارًا استراتيجيًّا في مواجهة سقَطات الإعلام الفردي والشَّخصي عَبْرَ المنصَّات الاجتماعيَّة وتأثير فراغ وغياب الضَّوابط فيها، بما يصنع من الإعلام المؤسَّسي الخاصِّ خيارًا إعلاميًّا مُتجدِّدًا قائمًا على التنوُّع، والاحترافيَّة، والاستدامة، وصناعة التَّغيير. وهو مرشَّح بقوَّة لِيكُونَ القوَّة النَّاعمة القادمة في سلطنة عُمان، القادرة على التَّأثير، وصناعة الوعي، والمساهمة الفاعلة في تحقيق مستهدفات رؤية «عُمان 2040». غير أنَّ الوصول بالإعلام الخاصِّ إلى هذه المساحة من الثِّقة والتَّمكين والمنافسة والرِّيادة يتطلب دعمًا رسميًّا واضحًا، وتفاعلًا مُجتمعيًّا إيجابيًّا، وانفتاحًا مؤسَّسيًّا أكبر على الإعلام الخاصِّ باعتباره شريكًا في التَّنمية، وصوتًا وطنيًّا يعكس تطلُّعات المُجتمع وهمومه. فإنَّ مستقبل الإعلام العُماني يبدو واعدًا في ظلِّ مسار التَّكامليَّة ورفع درجة التَّنسيق، إذا ما تمَّ استثمار قدرات الإعلام الخاصِّ وتوظيفها بالشَّكل الأمثل لخدمة الوطن والمواطن. وتبقَى صورة التَّوازنات الَّتي استطاع الإعلام الخاصُّ أنْ يُقدِّمَها نقطة تحوُّل جديدة في المشهد الإعلامي، تُحتِّم على الإعلام الرَّسمي أن يراجعَ نَفْسه، ويُعِيدَ بناء وسائله وأدواته ومنصَّاته ومحتواه؛ كَيْ يتمكنَ من مواكبة هذا التَّغيير. فالمنافسة هنا ليسَتْ للإقصاء، بل للتَّكامل، حيثُ يُشكِّل الإعلام الخاصُّ والرَّسمي جناحيْنِ لتعظيمِ التَّواصُل المُجتمعي الفاعل، وفْقَ اعتراف متبادل، وتعاون بنَّاء، وثقة معزَّزة بالعمل المشترك والنَّوعي.
د.رجب بن علي العويسي