فرضَ الله تعالى على المُسلِمِين عبادات ماليَّة عديدة، وفي مجملها تُشكِّل مساعدات ماليَّة وتبرُّعات من المقتدرين للمحتاجِين، ولتقديمِ خدمات للمُجتمع مِثل: حفر آبار المياه، وإنشاء المستشفيات وغيرها، وقد شرعها الله تعالى لِتكُونَ وسيلة لطلبِ رضا الله، وجعلَ بعضها فرضًا واجبًا على المُسلِم، وبعضها مستحَب، ومن العبادات الماليَّة الواجبة على المُسلِمِين الزَّكاة وهي: ركن من أركان الإسلام فرضَها الله على المُسلِمِين، وكذلك زكاة الفطر والَّتي هي شرط لقَبول الصِّيام فيتبرَّع المُسلِم بالطَّعام للفقراء والمحتاجِين نهاية شهر رمضان بما يعادل صاعًا من القمح أو الشَّعير أو غيره من المواد الغذائيَّة، وكذلك فرضَ الله تعالى الكفَّارات وهي عبارة عن تبرُّعات ومساعدات يدفعها المُسلِم للفقير والمحتاج تكفيرًا عن بعض الأخطاء الَّتي قد يرتكبها المُسلِم في العبادات مثل: كفَّارة الحِنث في القَسَم، وكفَّارة بعض الأخطاء في شعائر الحج، كما شرعَ الله بعض التَّبرُّعات كسنَّة مستحبَّة وجعلَها من أفضل العبادات الَّتي يتقرب بها العبد لربِّه مثل الصَّدقات بأنواعها، والوقف الخيري. أمَّا غير المُسلِمِين الَّذين يعيشون في المُجتمع الإسلامي فَهُم لا يدفعون الزَّكاة أو الصَّدقات، ولكن عَلَيْهم دفع الجزية والاستفادة من هذه المبالغ لدعمِ خدمات في المُجتمع، وفي مجموع هذه التَّبرُّعات والَّتي هي جزء من ادخارات أفراد المُجتمع، تُشكِّل إيرادات ماليَّة ضخمة تُصرف لخدمة النَّاس والمُجتمع. وقد حدَّد الشَّرع المستفيدِين من التَّبرُّعات بحسب نَوع العبادة فمثلًا تُنفق الزَّكاة في مصارفها الخمسة الَّتي ذكرَها الله تعالى في كِتابه العزيز (إِنَّمَا الصَّدقات لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(التوبة:60) وفي حالة الوقف الخيري فيكُونُ في أيِّ بابٍ من أبواب الخير مثل توفير مياه الشُّرب، أو تمهيد الطُّرقات، ومدِّ الجسور، أو بناء المساجد أو غيرها. ويُمكِننا القول إنَّ الشَّارع قد نظَّم التَّبرُّعات، وحدَّد الفئات المستفيدة مِنْها في المُجتمع لِتكُونَ منظومة ماليَّة أهليَّة متكاملة تُحقِّق التَّكافل الاجتماعي وتُسهم في تنمية المُجتمع وتطويره، كما تُعزِّز اللُّحمة والتَّماسُك الاجتماعي. وقد كان الرَّسول ـ صلَّى الله عَلَيْه وسلَّم ـ يتولَّى بِنَفْسِه استلام هذه الأموال، وتوزيعها على المستحقِّين حال استلامها مباشرة، دُونَ تأخير، كأموال: الزَّكاة، والصَّدقات، والخراج، والفيء وغيرها.. وفي عهد الخليفة أبوبكر الصِّديق ـ رضيَ الله عَنْه ـ اتَّسعتِ الدَّولة الإسلاميَّة وازدادتْ إيرادات أموال العبادات من نقدٍ وأموال عينيَّة كالثِّمار، والحبوب، والحيوانات، فتتطلب عمليَّة توزيع هذه الأموال جهدًا ووقتًا، لذا اتَّخذ بيتًا في منطقة تُسمَّى سنحه يودع فيه الأموال لحينِ توزيعها، وولَّى عَلَيْه أبا عبيدة ـ رضيَ الله عَنْه ـ...(عن الذَّهبي: عن خليفة بن الخيَّاط)، وعِندَما تولَّى عُمر بن الخطَّاب ـ رضيَ الله عَنْه ـ الخلافة، ازدادت أموال العبادات من زكاة وصدقات وخراج الَّتي يستلمها خليفة المُسلِمِين، فاستشار النَّاس في طريقة توزيع هذه الأموال «فقام إِلَيْه رجُل فقال: يا أمير المؤمنين، إنِّي قد رأيتُ هؤلاء الأعاجم يُدوِّنون ديوانًا لهم. فاشتهى عُمر ذلك، وقَدِ استشار عمر ـ رضيَ الله عَنْه ـ المُسلِمِين في تدوين الدَّواوين، فأشار بعضهم عَلَيْه بما يراه وقِيل إنَّه الوليد بن هشام بن المغيرة، قال جئت الشَّام فرأيتُ مُلوكَها قد دوَّنوا ديوانًا وجنَّدوا جندًا، فدوَّنَ ديوانًا وجنَّد جندًا. وفي بعض الرِّوايات أنَّ الَّذي أشار بذلك خالد بن الوليد ـ رضيَ الله عَنْه ـ، وأنشأها على مثال دواوين الرُّوم والفُرس، وقد دوَّنها عقيل بن أبي طالب «رضيَ الله عَنْه»، ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعِم «(ابن خلدون، المقدِّمة، ص170-171) من هُنا أنشأ الخليفة عمر بن الخطَّاب ديوانًا للبيتِ الَّذي يودع فيه أموال العبادات، وجعل له تنظيمًا ماليًّا وإداريًّا، وبذلك أنشأ أوَّل بيت للمال حرصًا مِنْه على حفظ الأمانة، فتلك الأموال هي أمانة في عُنقه. وقد كان المُسلِمون يحرصون على توزيع الأموال الموجودة ببيتِ المال بالسُّرعة الممكنة، فَهُم يَعدُّون هذه الأموال أمانة بَيْنَ يدَيْهِم وعَلَيْهم الاجتهاد في توصيلها للمستحقِّين بسرعة؛ وذلك حرصًا مِنْهم على تأدية الأمانات إلى أهلِها في وقتِها، كما كانوا يحرصون على توزيعها بحكمة، وفْقَ مصارفها، دُونَ تبذير، وبحسب أولويَّات حاجة النَّاس والمُجتمع، حتَّى أصبحَ بيت المال مؤسَّسة ماليَّة تموِّل احتياجات النَّاس الأساسيَّة كالمسكن والمشرب والملبس، وتموِّل الخدمات الاجتماعيَّة الَّتي يحتاجها النَّاس كالمدارس والمستشفيات، ودُور الرِّعاية للأرامل والأيتام وابن السَّبيل ورعاية الحيوانات وغيرها من خدمات المُجتمع. فبيتُ المال هو أوَّل مؤسَّسة خيريَّة اجتماعيَّة تموِّل احتياجات المُجتمع، وهو خير منظومة لاستدامة التَّنمية الاجتماعيَّة، وتحقيق الرَّخاء ورغد العيش للنَّاس... ودُمْتُم أبناء قومي سالِمِين.
نجوى عبداللطيف جناحي
كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية
متخصصة في التطوع والوقف الخيري
[email protected] Najwa.janahi@