مسقط ـ الوطن
كشفت دراسة بحثية أعدها فريق بحثي بقيادة الدكتور ماجد لباف خانیکی أستاذ مساعد في كرسي اليونسكو لدراسات الأفلاج بجامعة نزوى، عن الأبعاد الاجتماعية والثقافية العميقة لنظام الأفلاج في سلطنة عُمان، من خلال دراسة "أنظمة الأفلاج والتماسك الاجتماعي في سلطنة عُمان". وهدفت الدراسة إلى استكشاف الدور الذي تؤديه نظم إدارة المياه، وعلى رأسها نظام الفلج، في بناء رأس المال الاجتماعي وتعزيز التقارب والتماسك داخل المجتمعات العُمانية، لا سيما في محافظة الداخلية، ضمن سياق تاريخي وجغرافي شامل، وتميّزت بمقاربتها التأويلية (الهرمنوطيقية) التي تجاوزت النظرة التقليدية للأفلاج كنظم تقنية لإدارة المياه، لتتناولها كبُنى ثقافية ومعرفية متجذرة في التجربة الجمعية للمجتمع العُماني، حيث تناولت العلاقة بين التنظيمات القبلية المحلية والموارد المائية في ضوء السياقات التاريخية، والاجتماعية، والدينية، والرمزية التي أسهمت في تشكّل هذه النظم، كما سعت الدراسة إلى تحليل استراتيجيات التكيّف التي تبنتها المجتمعات العُمانية لمواجهة التغيرات البيئية والمناخية، ودور نظام الفلج في تحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في مختلف مراحل التاريخ. منهجية البحث: اعتمد الفريق البحثي منهجًا نوعيًا استقرائيًا بهدف التعمق في دراسة نظام الفلج وعلاقته بالبنية القبلية للمجتمعات المستفيدة منه، وتم جمع البيانات من مصدرين رئيسيين، وهما: المصادر النصية المتاحة، حيث تم استخراج (87) وثيقة ذات صلة من أصل (320) نتيجة تم التوصل إليها من خلال البحثين الورقي والإلكتروني، إضافة إلى الدراسات الميدانية، والتي شملت مقابلات اثنوجرافية أجراها الباحث مع السكان المحليين في سلطنة عُمان خلال الفترة من عام 2022م إلى 2023م. كما أُجريت (11) مقابلة غير منظمة مع مجموعة من المواطنين في ثلاث مناطق بشمال عُمان، تتميز بوجود نظم أفلاج نشطة، وقد شارك هؤلاء الأفراد بشكل مباشر في أنشطة الري، وتمويل وصيانة وإدارة الأفلاج، مما مكّن الفريق من جمع معلومات دقيقة وموثوقة حول الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية المرتبطة بهذا النظام التقليدي، إضافة إلى ذلك، قام الباحث بزيارات ميدانية إلى عدد من المواقع البحثية في شمال سلطنة عُمان، حيث ما يزال نظام الفلج يحتفظ بدوره المحوري في دعم الاقتصاد المحلي. نتائج الدراسة: وتوصلت نتائج البحث إلى أن البنية القبلية في سلطنة عُمان تختلف عن الصورة النمطية المنتشرة في الأدبيات الغربية، والتي تصوّر القبائل كمجتمعات منغلقة تقاوم التأثيرات الخارجية، فقد أظهرت النتائج أن نظام الفلج (نظام الري التقليدي) يشكّل مركزًا مشتركًا تنظم حوله القبائل حياتها، يمكن تسميته بـ"القبلية المائية"، حيث يلعب الماء دورًا في تعزيز التعاون المجتمعي والوطني، وأوضحت النتائج أن المجتمع العُماني ليس كيانا منغلقا، بل منخرط في منظومة تعاونية ديناميكية يدعمها نظام الفلج، ما يقدّم نموذجًا فريدًا لمجتمع اجتماعي واقتصادي يختلف عن التصورات الغربية التقليدية. النتائج والتوصيات: وخرج البحث بعدد من النتائج والتوصيات، أبرزها: الحفاظ على نظم الأفلاج ليس فقط كمصدر للمياه، بل كأصل اجتماعي مكّن العُمانيين من التعايش في وئام تام مع بعضهم، ومع الطبيعة، إلا أن هذه النظم تواجه اليوم تهديدًا وجوديًا نتيجة للتحولات الاقتصادية والاجتماعية، والتوسع الحضري السريع، والاستنزاف المفرط للمياه الجوفية، وهي ضغوط بيئية تهدد بتفكيك الشبكة الهيدرو-اقتصادية القائمة على الفلج، أي تلك الشبكة التي تدمج بين نظام توزيع المياه واستخدامه، والبنية الاقتصادية والاجتماعية التي تشكّلت حوله عبر القرون، بحيث أصبح الفلج ليس فقط وسيلة مائية، بل نظامًا يعيد تشكيل أنماط العمل والإنتاج والتعايش. وفي ظل التحديات البيئية المعاصرة، لا ينبغي أن يقتصر الحفاظ على الأفلاج على البُعد البيئي فقط، بل يجب أن يُنظر إليه أيضًا كوسيلة لصيانة رأس المال الاجتماعي الذي ميّز المجتمعات العمانية عبر التاريخ الجدير بالذكر، تأتي هذه الدراسة ضمن البحوث الممولة من برنامج التمويل المؤسسي المبني على الكفاءة، التابع لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار.
