اختارتْ سلطنة عُمان وبرحابة صدر أن تمارسَ دَوْر»الوسيط» من جهة، و»الإِطْفَائِيّ» لعشراتِ الملفات السَّاخنة أو المشتعلة في هذه المنطقة من رقعة الشَّطرنج الدوليَّة من جهة أخرى بالرّغم من إدراكها أنَّ منطقة الشَّرق الأوسط ستبقى «المنطقة الأكثر احتمالًا للانفجار في العالَم كُلِّه. مَهْد الحضارة الَّتي يُمكِن أن يغدوَ مقبرتها» وكذلك أنَّ ذلك سيتسبب لها بالكثير من الضُّغوطات السِّياسيَّة والاقتصاديَّة والمسؤوليَّات الأمنيَّة. هذا الدَّوْر الَّذي مارَسَتْه بكُلِّ احترافيَّة سياسيَّة وأمنيَّة بعيدًا عن الأنانيَّة والإملاءات والتَّفضُّل به على أحَد، بل وكما أشار جلالة السُّلطان قابوس بن سعيد سُلطان عُمان «طيَّب الله ثراه» إلى أنَّه امتدادًا لِمَا تشعر به سلطنة عُمان من واجب عَلَيْها تجاه أمن واستقرار المنطقة. ومن خلال هذه الأدوار تشكَّلتِ النَّظرة العُمانيَّة السِّياسيَّة مِنْها والأمنيَّة إلى قضايا المنطقة بوجْهِ عامٍّ وإلى قضايا وملفَّات منطقة الخليج العربي على وجْهِ الخصوص. لذا لم تتنصَّلِ الحكومة العُمانيَّة يومًا من دَوْرها ومسؤوليَّتها الوطنيَّة أو واجبها الأمني حيال تأمين الملاحة في مضيق هرمز، خصوصًا أنَّه مضيق يخضع للسِّيادة العُمانيَّة، رغم أنَّها لا تستفيد فعليًّا مِنْه، كما أنَّ هذا المضيق لا يخدم سلطنة عُمان إلَّا في منطقة بسيطة؛ لأنَّ كُلَّ موانئها مفتوحة أصلًا على البحر. وقد أكَّد ذلك حضرة صاحب الجلالة السُّلطان قابوس بن سعيد «طيَّب الله ثراه» بقوله: «بحكم موقع المضيق ومرور السُّفن من وإلى المنطقة والعالَم في مياهنا الإقليميَّة، كانتْ عَلَيْنا مسؤوليَّة كبرى تجاه سلامة هذا الممرِّ، ونحن بقدر إمكاناتنا، نراقب مراقبة دقيقة دخول السُّفن وخروجها في المضيق، وبحريَّتنا موجودة هناك بشكلٍ دائم»، بل كانتْ دائمة التَّأكيد على ذلك الدَّوْر والمسؤوليَّة رغم تكاليفها الكبيرة. وتُعَدُّ قضيَّة إغلاق مضيق هرمز من أكثر القضايا الدوليَّة تداولًا في وقتنا الرَّاهن، سواء كان ذلك من النَّاحية الإعلاميَّة، أو من خلال مراكز صناعة القرار السِّياسي وأروقة الاستخبارات والأمن العالَميَّة، وذلك بالتَّوازي مع ملفات مماثلة التَّعقيد والخطورة الدوليَّة، بالإضافة إلى تُشكِّله هذه القضيَّة، أي قضيَّة إغلاق مضيق هرمز وتوابعها من انعكاسات سلبيَّة ومخاطر كارثيَّة تُهدِّد الأمن والاستقرار الدولي من جهة، وعلى المصالح القوميَّة للعديد من دول العالَم وعلى رأسها الدول الكبرى كالولايات المُتَّحدة الأميركيَّة وروسيا من جهة أخرى. يُضاف إلى ذلك ما يُمكِن أن تعكسَه آثار احتماليَّة إغلاق المضيق أو التَّضييق على عبور النَّاقلات النفطيَّة من مخاطر عالَميَّة على الاقتصاد العالَمي. وقد كان لتدويل هذه القضيَّة من جهة، والتَّعامل معها عَبْرَ سياسة المصالح الفرديَّة من جهة أخرى انعكاسات دوليَّة فاقمتْ من الآثار سالفة الذِّكر؛ نظرًا لِمَا تركَتْه من انطباع غير إيجابي على أمن واستقرار دول المنطقة خصوصًا. يُضاف إلى ذلك ارتفاع نسبة الصِّراعات السِّياسيَّة والتَّدخُّلات الأمنيَّة والدِّعاية الإعلاميَّة التَّحريضيَّة الَّتي شكَّلتْ جزءًا كبيرًا من أسلوب التَّعاطي السِّياسي والإعلامي معها، مع التَّأكيد على توسُّع صريح وملاحظ في أدوات ووسائل الحرب النَّفْسيَّة بَيْنَ الدول ذات العلاقة المباشرة والمتداخلة مع هذه القضيَّة، سواء كان ذلك عَبْرَ وسائل الإعلام الرَّسميَّة أو غير الرَّسميَّة، وكذلك عَبْرَ الوكالات والمؤسَّسات وأذرع تلك المؤسَّسات الاستخباراتيَّة والأمنيَّة والإعلاميَّة والسِّياسيَّة وغيرها. وتَعَدُ سلطنة عُمان من أهمِّ الدول الَّتي تتداخل مصالحها القوميَّة الاستراتيجيَّة مع هذا المضيق من نواحٍ عديدة ومختلفة، أبرزها على الإطلاق أنَّ هذا المضيق يخضع كُليًّا لِمَا تخضع له باقي المجالات البحريَّة العُمانيَّة؛ نظرًا لوقوعِ الممرَّات البحريَّة في المياه الإقليميَّة العُمانيَّة. غير أنَّ هذه السِّيادة يَجِبُ أن لا تمسَّ بحقوق الدول الأجنبيَّة في المرور العابر، وحتَّى نكُونَ أكثر دقَّةً وتحديدًا فقَدْ «عَقدتْ سلطنة عُمان وإيران في 25/7/1974 اتفاقًا يُحدِّد الجرف القاري بَيْنَهما في مضيق هرمز وعلى تقسيم المياه الإقليميَّة للدَّولتَيْنِ، وبموجب هذه الاتفاقيَّة فإنَّ رسم الحدود يمتدُّ بَيْنَ الدَّولتَيْنِ على مسافة (124،85) ميلًا، وتبتدئ من المنطقة الشَّرقيَّة من الخليج العربي لِتنتهيَ عِندَ بحر عُمان مارًّا بمضيق هرمز مُكوِّنًا (12) نقطة». ويخضع هذا الممرُّ من النَّاحية القانونيَّة لاتفاقيَّة قانون أعالي البحار للعام 1982م، مع التَّأكيد على أنَّ هناك العديد من الدول الَّتي لم توقعْ عَلَيْها، ومِنْها الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة حتَّى الآن و»غير مصدَّق عَلَيْها من قِبل إيران، ممَّا يفتح المجال لاجتهادات وتفسيرات مختلفة حَوْلَ النِّظام القانوني لحُريَّة الملاحة والمرور في المضيق. تفسيرات من شأنها أن ترفعَ من درجة التَّوَتُّر والصِّدام في منطقة الخليج، وهذا الأمْر بالفعل ما هو واقع اليوم في التَّعامل مع هذه القضيَّة وأطرافها والمتداخلِين معها في ظلِّ تضارُب المصالح السِّياسيَّة والجيوسياسيَّة. والمُتتبِّع لسياقات ومآلات هذه القضيَّة منذُ الأعمال الإرهابيَّة الَّتي وقعت خلال شهر مايو ويونيو من العام 2019م في المياه الدوليَّة وتمحورت حَوْلَ استهداف السُّفن التِّجاريَّة عَبْرَ تفجيرها وتخريبها، وما يحدث اليوم من مواجهة مباشرة بَيْنَ الجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة ومستعمرة الإرهاب «الإسرائيليَّة» يلحظ نوعًا من محاولات استغلال الوضع الأمني المتعلِّق بالملاحة في مضيق هرمز لإعادة بناء سيناريوهات معيَّنة يُمكِن استغلالها لتأكيد بعض المصالح السِّياسيَّة أو الاستخباراتيَّة، أو لإعادة تعريف بعض التَّوَجُّهات والسِّياسات الدوليَّة كالحياد وعدم التَّدخُّل في الشُّؤون الدوليَّة. ولعلَّ محاولات تشويه أو إضعاف مواقف بعض الدول أو اتِّهامها بالتَّهاون في دَوْرها السِّياسي أو الأمني في المنطقة كان جزءًا لا يتجزأ من تلك التَّوَجُّهات السِّياسيَّة لبعض أصحاب المصالح والمنتفعِين من نَشْر الفَوضى والصِّراع، أو لِمَن لهم أجندات خاصَّة في المنطقة. وللأسف الشَّديد فقَدْ تعرَّضتْ سلطنة عُمان بسبب الأزمات والقضايا الدوليَّة المرتبطة بمضيق هرمز منذُ عَقدِ الثَّمانينيَّات من القرن الماضي، وما ترتَّب عَلَيْها من انعكاسات وآثار سياسيَّة وأمنيَّة إقليميَّة ودوليَّة، لجزء كبير من هذا الضَّغط السِّياسي والأمني والبروباجاندا الإعلاميَّة الدِّعائيَّة الَّتي ارتكزتْ حَوْلَ محاولات إضعاف المكانة الجيوسياسيَّة وتشويه الأدوار الأمنيَّة والاستراتيجيَّة الحيويَّة الَّتي تَقُوم بها لحمايةِ أمْنِ واستقرار المنطقة عمومًا، وهذا الجزء الحيوي من المنطقة خصوصًا. يُضاف إلى ذلك ما تعرَّضتْ له من محاولات لتحميلِها المسؤوليَّة القانونيَّة التقصيريَّة حيال العديد من تلك التَّجاوزات والأعمال غير القانونيَّة في هذا الجزء الدّولي. على أنَّ ذلك لم يكُنْ لِيُشكِّلَ أيَّ أثَر فارق لدَى القيادة والحكومة في سلطنة عُمان، حيثُ كانتْ تعمل وما زالتْ حيال القضايا الإقليميَّة والدوليَّة ومصالحها المختلفة وعلاقاتها بمختلف دول العالَم والتزاماتها السِّياسيَّة والقانونيَّة وفْقَ أُسُس سياديَّة وقانونيَّة حياديَّة لا دخل لها بالعواطف والانفعالات والمهاترات السِّياسيَّة والدِّعايات الإعلاميَّة، وهو ما جعلَها محلَّ ثقة العديد من دوَل العالَم وعلى رأسها الدوَل الكبرى في التَّعامل والمساعدة على حلِّ وتسوية العديد من الملفات الإقليميَّة الَّتي كان لها أبلغ الأثر في التَّأثير سلبًا على الأمن والاستقرار الدّولي والإقليمي، وعلى رأسها الملف النَّووي الإيراني وما ترتب عَلَيْه من آثار دوليَّة وإقليميَّة، ومن ضمِنْها تلك الأحداث في مضيق هرمز. •هذا المقال بتصرُّف من مؤلَّفنا حرب النَّاقلات الثَّانية (دراسة تحليليَّة لحرب النَّاقلات وأشكال الصِّراع الدَّائر في منطقة الخليج ومضيق هرمز خلال الفترة من 10/مايو/ 2019- حتَّى 10/ديسمبر/2021م والنَّتائج المترتِّبة على ذلك على المستويَيْنِ الإقليمي والدّولي)
محمد بن سعيد الفطيسي
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
رئيس تحرير مجلة السياسي – المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية [email protected] MSHD999 @