لاحظتُ مؤخرًا أنَّ ما يُقدَّم كنجاح أو يُحتفى به في كثير من المنصَّات لم يَعُدْ يتطلب سوى مهارة واحدة: أن تعرفَ كيف تقول الشَّيء بطريقة «تُعجب الخوارزميَّة»، حتَّى لو كان ما تقوله خاليًا من المعنى. قَبل أُسبوعَيْنِ، شاهدتُ فيديوهًا على «تيك توك» حصدَ أكثر من مليونَي مشاهدة. كان شابٌّ يشرح نظريَّة النسبيَّة لألبرت أينشتاين، بطريقة مبسَّطة، إلى درجة أنَّها صارتْ خاطئة تمامًا. لكنَّ التَّعليقات كانتْ تُمطره بالإعجاب: «أخيرًا فهمتُ!»، «شرحك عبقري!» تساءلتُ حينَها: هل بِتنا نُكافئ الخطأ الجذَّاب ونتجاهل الصَّواب الَّذي يتطلب جهدًا لِفَهْمِه؟ هذا المشهد، رغم بساطته، يلخِّص مأزقًا أكبر: تحوُّل «المتوسطيَّة»(mediocrity) إلى معيار. تمامًا كما وصفَ آلان دونو في كِتابه نظام التَّفاهة، الَّذي لم يكُنْ يكتب عن كندا وَحْدَها، بل عن حالة عالَميَّة تتكرر بوجوه مختلفة. مُجتمعات تنتج العادي وتستهلكه وتخشى كسرَه. بل وتُعاقب ـ بصمْتٍ ـ مَن يحاول الخروج عن النَّمط. في التَّعليم، تمرُّ بي أحيانًا مواقف تُثير التَّفكير أكثر من أيِّ كِتاب. سألَتْني طالبة في المرحلة الإعداديَّة ذات مرَّة، بنبرة بريئة تمامًا: «ليش تزعل المُعلِّمة إذا قلتُ لها: ليش؟» ضحكتُ يومها، ثمَّ صَمَتُّ. فالسُّؤال لا يتعلق بمُعلِّم بِعَيْنِه، بل بثقافة عامَّة قد تنشأ أحيانًا حَوْلَ فكرة السُّؤال نَفْسه: متى يكُونُ مقبولًا؟ ومتى يُفهَم على أنَّه تجاوز؟ رُبَّما نحتاج أن نُطمئنَ أطفالنا أنَّ «لماذا؟» ليسَتْ قلَّة احترام، بل بداية فَهْم. أمَّا المشهد الإعلامي ففيه ملامح يُمكِن التَّوَقُّف عِندَها. في أوقات الذّروة، كثيرًا ما تتشابه المواضيع، وتتكرر الوجوه، وتَدُوْر الحوارات حَوْلَ ذات المحاور. رُبَّما يَعُود ذلك لضغوط الوقت، أو لاعتبارات الجمهور، أو لِتَوَجُّهات الإنتاج. لكن في خضمِّ هذا التّكرار، يُصبح من الصَّعب على الرَّأي المختلف أن يجدَ مساحة يُكمل فيها فكرته قَبل أن تقاطعَه الموجة السَّائدة. حتَّى على مستوى الثَّقافة الرَّقميَّة، نحن لا نستهلك ما نحتاج، بل ما يُريحنا ويؤكِّد ما نعرفه. الخوارزميَّات صارتْ «تُربّي أذواقنا» دُونَ أن نشعرَ. ومَن لم يُطابق ما نفضِّله، نُقْصِه بلمسةِ إصبع، أو نبلِّغ عَنْه. لكن ما لا يُقال كثيرًا هو أنَّ «نظام التَّفاهة» لا يُفرض عَلَيْنا فقط، بل نُعِيدُ إنتاجَه بأنْفُسِنا، أحيانَّا من باب الطِّيبة، وأحيانًا من باب الخوف. نُقلِّد لأنَّ التَّقليد أسرع. نُوافق لأنَّ الاعتراض مُرهق. نُجامل لأنَّ الصَّمْتَ في وَجْه الرَّداءة يُربك العلاقات. نضحك على ما لا يُضحك، ونُشارك ما لا نؤمن به، فقط لأنَّ الجميع يفعل. شيئًا فشيئًا، نفقد قدرتنا على أن نُميِّزَ بَيْنَ ما نريده فعلًا، وما اعتدنا أن نرغبَ فيه. أحيانًا لا نقبل التَّفاهة لأنَّنا نُحبُّها، بل لأنَّنا نخشى ما بعدها. المختلف لا يُربكنا لأنَّه مخطئ، بل لأنَّه يُهدِّد التَّوازن الوهمي الَّذي نعيش فيه. حين يطرح أحَدهم رأيًا صريحًا في وسط اعتاد المجاملة، لا يُنظر إِلَيْه كمُزعج لأنَّه تجاوز حدوده، بل لأنَّه صدَق في وقتٍ آثَر فيه الآخرون الصَّمْت. كثيرون لا يكرهون الفكر، بل يكرهون تبعاته: أن يُقالَ عَنْهم إنَّهم مختلفون، أو أن يُعزلوا من المجموعة. ولهذا، نفضِّل أحيانًا أن نُسايرَ الرَّداءة على أن ندفعَ ثَمَن الصِّدق. هذه ليسَتْ خيانةً للذَّات فقط، بل تآكل بطيء للمعنى. فالسَّطحي لا يُفرَض عَلَيْنا من الخارج فقط.. أحيانًا نُمَهِّد له الطَّريق كَيْ لا نُزعجَ أحدًا. دونو لا يطرح هذه الملاحظات في إطار نظري فقط، بل يدعو إلى مراجعة حقيقيَّة تبدأ من الفرد. ويصدق القول هنا: التَّغيير لا يبدأ من المؤسَّسات، بل من قراراتنا الصَّغيرة. أن نقرأَ كِتابًا يخالف قناعاتنا، أن نطرحَ سؤالًا غير مريح في جلسة مريحة، أن نختارَ الصَّمْت حين يعمُّ الصَّخب، أو نكسر الصَّمْت حين يصير التّكرار طاغيًا. رُبَّما نبدو «مُعقَّدِين»، أو «صَعْبي المِراس»، أو «مشاكِسِين»، وهذا هو الثَّمَن. لكنَّ البديلَ أسوأ: أن نعيشَ وفْقَ ما يُطلب، لا ما نؤمن به. نحن لا نحتاج إلى ثورة، بل إلى وعي يومي. أن نعلِّمَ أبناءنا أن يقولوا «لا أعرف» بدلَ اختراع إجابة، وأن يروا أنَّ الخطأ ليس عيبًا، بل طريقة لِفَهْمِ العالَم. ولن أقولَ إنَّ تغيير نَفْسك سيُغيِّر العالَم. ولن أدَّعيَ أنَّ التَّفكير النَّقدي وَحْدَه كافٍ لردْمِ الفجوة. لكنَّ كُلَّ مرَّة تختار فيها الفكرة الصَّادقة على الفكرة الرَّائجة، فأنْتَ تُسهم في مقاوَمة صامتة. الخطر لا يكمن في أن نُنتجَ فاشلين، بل في أن نُنتجَ متوسِّطِين راضِين برداءتهم. فالفاشل قد يتمرَّد. أمَّا الرَّاضي.. فهو جزء من النِّظام. لا يرَى في الرَّداءة مُشْكلة، بل يرَى فيها معيارًا كافيًا. وهنا يُصبح الخطر غير مرئي؛ لأن لا أحَد يشعر بوجوده أصلًا.
نبيلة رجب
كاتبة من البحرين