الاثنين 23 يونيو 2025 م - 27 ذو الحجة 1446 هـ
أخبار عاجلة

شذرات: معلم جميل.. أيقونة اجتماعية.. إنسانية.. دينية «1»

شذرات: معلم جميل.. أيقونة اجتماعية.. إنسانية.. دينية «1»
السبت - 21 يونيو 2025 07:38 م

علي بن جميل النعماني

30

تتسلل نسمات هواء «الغربي» الجافة نوعًا ما بين أغصان سعف النخيل المرصوصة بإتقان، تثبتها حبال مثنية نسجت من ليف النخيل، تحرك هذه النسمات الجرائد المتدلية، في رقصة خفيفة يمنة ويسرة، محدثةً حفيفًا هادئًا، كأنها أنفاس المكان الذي يضم أناس بسطاء في خضم هذه الحياة المتعبة. لكن هذا الفضاء، الذي تكتسي جدرانه بـ»الدعون»، ليس مزرعة تحتضن ثمار النخيل، أو بقعة في زمن العناء والمشقة، بل هو فصل دراسي شُيّد بروح البساطة من مواد مؤقتة. وهكذا هي بقية مرافق المدرسة، باستثناء مكتب المدير والجمعية التعاونية، اللذين بُنيا لاحقًا من الخشب، ليرسيا بعضًا من الثبات في هذا العالم المتغير. لا يعكر صفو الهدوء هنا سوى صيحات الطلبة المتصاعدة من حصة الرياضة بألحان المرح والسعادة في الملعب الترابي بجانب المدرسة، تنتصب على أطرافه الأهداف الخشبية المصبوغة بالأبيض والأسود. لقد أتى هذا الصيف مبكرًا، زاحفًا بخطواته الدافئة، ولم يتبقَّ من العام الدراسي سوى أيام قليلة قبل أن تفتح الإجازة الصيفية ذراعيها، واعدةً بأيام من الحرية للطلبة على أقصى تقدير من الدارسة، ولكن ليس من عمل حصاد النخيل الذي تلتم لأجله الأسر في منظر التعاون والتكاتف المجتمعي. حمل المُعلِّم جميل حقيبته السوداء، التي كانت رفيقة دربه، وعصاه التي لم تفارقه قط، كجزء أصيل من كيانه، وتوجه نحو الفصل الواقع في الركن الشمالي من المدرسة، حيث تنتظره العقول الغضة. لا يفصل المدرسة عن بيوت حارة الشَّعيبة سوى سياج شبكي مرن، يتيح للعامة رؤية من بالداخل بوضوح تام، كشاشة تعرض تفاصيل الحياة العلمية اليومية. «مُعلِّم... مُعلِّم!» وصل الصوت المرتعش، كنسمة أتت من رائحة الماضي، لعجوز طاعنة في السِّن من خارج السياج، لامس أسماع الأستاذ جميل وهو يخطو بثبات نحو واجبه الوظيفي، يدفعه الشغف الذي لم ينطفئ بداخله. توقف فجأة، ورفع يده اليمنى فوق عينيه ـ كعادته في وقت النهار، ليحجب أشعة الشمس ويتبين الرؤيا ـ مرحبًا: «أهلًا أم سالم!» قالها عندما تأكد من هُوِيتها، التي نقشتها السنون والتجارب. تبادلا الحديث، لتنهي أُم سالم كلامها بجملة تحمل في طياتها قلق الأجداد وحبهم: «الولد سعيد (تقصد حفيدها) سلم العين منه بس.» ارتسمت ابتسامة دافئة على محيا المُعلِّم جميّل كعادته، كشمس تشرق على وجوه تلاميذه، وقال بلكنة هادئة يملؤها الطمأنينة: «إن شاء الله ما يهمك.» ثم ولج إلى الفصل الذي كان قريبًا منه، كباب يفتح على عالم من العلم والمعرفة. فور دخوله، وقف الطلبة احترامًا تامًّا له، كجنود صغار يقفون لتحية قائدهم. بدأ يتفقد وجوههم وبتأملها، مستذكرًا بعض الطلبة الذين كانوا مجيدين في حفظ سور القرآن الكريم، والوجوه التي لم تؤد واجبها بالتذكر والحفظ والتحليل لمعاني القران الكريم وتعاليم الدين الحنيف، في ذات الوقت تلك التي رآها بالأمس وهم يلعبون حين كان مارًا مساءً. فالمُعلِّم جميّل يمتلك هيبة المعلم الحازم ووقار المصلح الباني في محيطه الاجتماعي. في كل خطوة للمُعلمِّ، وفي كل كلمة ينطق بها، يكمن فضل عظيم. إنه النور الذي يضيء دروب الأجيال، الباني الصامت الذي يشكل العقول والقلوب، ويغرس بذور المعرفة والقِيَم في تربة خصبة، ليزهر منها مستقبل الأوطان. فكم من عقلٍ استنار، وكم من طريقٍ استقام، بفضل صبره وعطائه غير المتناهي.. يتبع ج2 

علي النعماني

كاتب عماني