تحركتْ سلطنة عُمان في كلمتها أمام المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأُمم المُتَّحدة من موقع الدَّولة الَّتي تُدرك تمامًا أنَّ التَّنمية ليسَتْ خدمةً، وإنَّما استحقاق، خصوصًا في زمن تتساقط فيه مفردات المساعدات من فَمِ النِّظام الدّولي بلا أثَر ملموس، فقَدْ طرحتِ السَّلطنة مقاربةً مختلفة، تتجاوز فكرة الإنقاذ الظَّرفي، لِتضعَ تصوُّرًا متكاملًا يرتبط بجذور العدالة الإنسانيَّة وذلك انطلاقًا من تحوُّل المساعدات إلى بديل عن الإنصاف، حينها يفقد العمل الإنساني قِيمته، وعِندَما تغيب الإرادة السِّياسيَّة خلف لُغة مشحونة بالمصطلحات، يفقد النِّظام الدّولي مصداقيَّته. من هذا التَّناقض الواضح، انطلقت سلطنة عُمان نَحْوَ إعادة ترتيب العلاقة بَيْنَ التَّنمية والكرامة، معتبرة أنَّ بناء القدرة الذَّاتيَّة للمُجتمعات هو حجر الزَّاوية في أيِّ مشروع تنموي، وهذا الموقف لا يُبنى على النيَّات وحْدَها، بل يتطلب بنية قانونيَّة وتشريعيَّة تُفضي إلى إصلاح شامل في آليَّات التَّمويل، وإلى مراجعة جادَّة للمنظومة الَّتي تُدير التَّحدِّيات الإنسانيَّة كما لو كانتْ إدارة أزمة لا مشروع إنقاذ طويل المدَى. إنَّ تَبنِّي سلطنة عُمان في رؤية «عُمان 2040» هذا الفَهْمِ المُتقدِّم للتَّنمية يؤكِّد أنَّها تعاملتْ مع الإنسان باعتباره هدف السِّياسات لا مجرَّد رقم في معادلات اقتصاديَّة، فعِندَما وضعتِ السَّلطنة رأس المال البَشَري في مقدِّمة أولويَّاتها كان في الأساس من منطلق إدراك أنَّ التَّنمية الَّتي تُبنى دُونَ وعيٍ تنتج منتجات هشَّة، لذا عمدتْ إلى الاستثمار في التَّعليم، والصحَّة، والثَّقافة، والتَّأهيل، ورأتْ أنَّ ذلك ضرورة وجوديَّة لكُلِّ دَولة تطمح إلى بناء مواطن يملك قراره، ويدرك محيطه، ويُسهم في صياغة مُجتمعه، هذه الرُّؤية العُمانيَّة تنفتح على العالَم عَبْرَ بناء شراكات ولا تنشغل بالجودة الدَّاخليَّة فقط. فالسَّلطنة لا تسعى إلى الاعتماد على التَّمويل وَحْدَه، لكنَّها تعمل على نقل المعرفة والتقنيَّة وبناء القدرات، ما يؤكِّد أنَّ الرُّؤية العُمانيَّة الطَّموحة، تعكس توازنًا بَيْنَ الأبعاد البيئيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، إدراكًا بأنَّ أيَّ إهمال في جانب سوف يفرغ التَّنميَّة من مضمونها، فالإنسان حين يفقد الثِّقة في العدالة والفرص المتكافئة، لا يبني، ولا يحمي، ولا ينتمي. ولعلَّ أبرز ما جاء في كلمة السَّلطنة أنَّها دفعتْ إلى إصلاح جادٍّ في النِّظام الدّولي، مطالِبةً بتوزيع أكثر عدالةً للتَّمثيل، وصياغة سياسات تأخذ في الاعتبار أصوات الدوَل الَّتي طالَما تمَّ تجاهلها. حين تُدار التَّنمية من العواصم الكُبرى فقط، فإنَّ القرارات تفقد اتِّصالها بالواقع وتتحوَّل إلى أدوات لإعادة إنتاج التَّفاوت العالَمي، ومن هنا عبَّرتِ السَّلطنة عن قلقها الواضح من تأثير النِّزاعات على استقرار المُجتمعات، وسلّطتِ الضَّوء على الاحتلال الصُّهيوني كنموذج فجٍّ لإجهاض التَّنمية، وحرمان الشُّعوب من ممارسة حقِّها في البناء والإعمار، وفي هذا السِّياق تأتي القضيَّة الفلسطينيَّة كنموذج آخر فلم تَعُدْ فقط نزاعًا إقليميًّا، لكنَّها مرآة تكشف عجز المنظومة الدوليَّة عن إنصاف الإنسان، فحين تغيب العدالة ينهار كُلُّ ما يُبنى، وحين تقايض الحقوق السِّياسيَّة بالمساعدات، تنهار الثِّقة في جدوى التَّنمية نَفْسها، لذلك ربطتْ عُمان بَيْنَ السَّلام العادل، والاستقرار الاجتماعي، وإمكان إطلاق أيِّ مشروع حقيقي للإعمار يُعِيد الحياة إلى المُجتمعات المهدَّدة بالاندثار. في موازاة هذا الطَّرح، تحرَّك البنك المركزي العُماني بشكلٍ متَّسق مع التَّوَجُّهات الوطنيَّة من خلال انضمامه إلى شبكة تخضير النِّظام المالي، وهو ما يُشير إلى أنَّ قضيَّة المناخ لم تَعُدْ حقلًا للنّقاشات الرمزيَّة، لكنَّها أضحتْ محورًا فعليًّا في بناء سياسات اقتصاديَّة مَرِنة، حيثُ أطلَق البنك إطارًا تنظيميًّا يلزم المؤسَّسات بتضمين البُعد البيئي في ممارساتها التَّمويليَّة، وبدأ تنفيذ خطَّة متدرِّجة تَضْمن الشفافيَّة والانضباط في تَبنِّي مشاريع خضراء، هذا التَّوَجُّه يضع السَّلطنة في طليعة الدوَل الَّتي تقرأ المستقبل من بوَّابة الاستدامة، وتتعامل مع المخاطر البيئيَّة باعتبارها تحدِّيًا تنمويًّا لا ظرفًا طارئًا، كما يعكس حرصًا مؤسَّسيًّا على بناء قِطاع مالي يتَّسم بالجاهزيَّة، والتَّنوُّع، والقدرة على الاستجابة للأزمات دُونَ التَّخلِّي عن مسؤوليَّاته الأخلاقيَّة تجاه البيئة والمُجتمع، من هذا المنطلق لا تنفصل جهود عُمان البيئيَّة عن مشروعها التَّنموي، بل تُشكِّل امتدادًا استراتيجيًّا له، نَحْوَ وطن قادر على النُّموِّ دُونَ أنْ يدفعَ الإنسان أو الطَّبيعة ثَمَن هذا النُّمو.