رابعًا: «ملتقى ما بَيْنَ السَّماء والأرض». متحف «فيتنام التاريخي»، ظهر ككائن يطير في سماء «هانوي» بأجنحته الإسمنتيَّة المدبَّبة، وضخامة جسده الممتد عَبْرَ مساحات وحدائق شاسعة، وطوابقه الثلاثة، بناء متميّز يلفتُ النَّظر ويثير الدَّهشة، يليق بتاريخ فيتنام، حيثُ تعلو أصوات المعارك ونداءات التَّضحية والولاء للأوطان وصيحات التَّحرُّر من قبضة الاستعمار، على ما عداها، فقد اصطبغ التَّاريخ الفيتنامي بدماء الشَّعب الَّذي فاض على أرضها وسقى تربتها حدَّ التَّشبُّع ليعيشَ الوطن حُرًّا أبيًّا شامخًا. فيما يَعَدُّ الشَّعب الفيتنامي، الرَّئيس الأوَّل لفيتنام الشماليَّة، «هوشي منه»، بطلًا قوميًّا ورائدًا لنهضة فيتنام الحديثة، وقائدًا لحروب التَّحرير الَّتي خاضها مع رفاقه، فصوره وأقواله ونصبه التذكاريَّة وتاريخ وتفاصيل حياته الدَّقيقة، تجسِّد في كُلِّ زاوية وقسم وعرض ونشاط داخل المتحف ـ الحي الفرنسي في هانوي، معلَم سياحي بارز يضعه السيَّاح الَّذين يزورون فيتنام، ضمن برنامجهم لمشاهدة المواقع التَّاريخيَّة والطَّبيعيَّة، يطلُّ على بحيرة «هوان كيم»، ويتميَّز بعمارة بيوته على النَّمط الأوروبي، وبالهدوء والتَّشجير والنَّظافة، ويضمُّ كاتدرائيَّة القديس «يوسف»، الَّتي افتتحت عام ١٨٨٧م، وشيّدت من قِبل الحكومة الفرنسيَّة في الهند الصينيَّة، وما زالتْ محتفظة بعمارتها ومظهرها القديم. مدينة «سابا» الفاتنة، تعرف بأنَّها «ملتقى ما بَيْنَ السَّماء والأرض»، لوجودها على ارتفاع (١٥٠٠) مترًا فوق مستوى سطح البحر، تقع شمال غرب فيتنام، على الحدود الصينيَّة، وتمتلك مصاطب الأرز وغابات الخيزران. يقصدها السيَّاح للرَّاحة والاستجمام وتأمل فتنة وجَمال الطَّبيعة، وزيارة قراها الَّتي ما زالتْ محتفظة بحياتها التقليديَّة القديمة، مثل قرية «كات كات» و»هام آرتا فين»، اللَّتيْنِ تتميَّزان بالمناظر الطَّبيعيَّة الفريدة، والجبال الشَّاهقة الخضراء، والشَّلالات المنهمرة، والنَّمط المعماري للمساكن الخشبيَّة البسيطة، وحياة سكَّانهما التقليديَّة الَّذين يعيشون على ما تجود به حقول الأرز من خيرات وفيرة، ويأتي التَّعرُّف عَلَيْهما كذلك، للاستمتاع بالتقاء التراث الثَّقافي الغني مع فتنة الطَّبيعة وبذخها، بالإضافة إلى استكشاف قمَّة جبل «فانسيبان»، و»موانا سابا»، بالتلفريك. إنَّها بحقِّ جَنَّة الله على الأرض، لوحة طبيعيَّة احتشدت بغنى الطَّبيعة وجَمالها الفاتن، لا يرغب الزَّائر لقراها مفارقتها، لسان حاله يقول لا مطمع لي أكثر من العيش في أحضان شلالات وعيون وجداول وأنهار وأرياف ومدرجات الأرز والقرى المعلقة في قِمم الجبال بَيْنَ الضَّباب هنا في سبا، شعور بأنَّ الرُّوح والجسد والقلب تحلِّق بأجنحة الطَّير سابحة في فضاء هذه الأجواء الخياليَّة، فتتلاشى الهموم والأحزان، ومتاعب الجسد وآلامه، وتصفو النَّفس وتهدأ فتشعر بالطُّمأنينة والجَمال والنَّقاء وإحساس مطلق بالحُريَّة، خضرة ومياه وزقزقة، زهور تفوح مِنْها عطور تسكر العقل وتحفزه على الإبداع، مصاطب الأرز ومدرجاته المدهشة، على ضفاف البحيرات الصَّافية والجداول المنسابة، قرى لا تزال بكرًا تعيش الحياة الأولى لم تخطُ خطوة واحدة بعد نَحْوَ التَّمدُّن والحداثة، ولم تصبْ بلوثتهما ولا بعبث الإنسان ورأسماليَّته وماديَّته المفرطة المخربة للطَّبيعة وجَمالها... فأيُّ مكان في هذا العالَم الفسيح، يجود على إنسان بهذا البذخ والكرم من الرَّاحة والطُّمأنينة والسَّكينة والأُفق المفتوح على الجَمال؟ هنا تمارس الطَّبيعة سلطان إغوائها، فما تمتلكه من فيوض الجَمال يفوق الوصف، فيفشل أيُّ قلم أو ريشة أو أدب أن تجسِّدَها حقيقة كما ترى بالعين المجرَّدة، في نصِّ ولوحة وقصيدة شِعر. ساعات عشناها في تجربة مثيرة داخل حافلة «النَّوم»، في طريقنا من «هانوي» إلى «سابا»، حافلات من طابقين تميَّزت بالرُّقي والنَّظافة العالية والأناقة والجَمال، أخذ تصميمها هيئة الغرف المستقلَّة والمنفصلة عن بعضها، مع سرير مريح ونافذة تطلُّ على القُرى النَّائمة في أحضان الطَّبيعة، والرِّيف الأخضر والبساتين المزهوة بأنواع شتَّى من الأشجار والأعشاب والزهور، كانتْ هذه الحافلات في الماضي، تنقل المسافرين بَيْنَ المُدُن الَّتي تفصلها طرق طويلة ومرهقة ليلًا، وبسبب انتشار شَعبيَّتها وتناسبها مع ذائقة المسافرين، طوَّرت وحوَّلتْ إلى واحدة من معالم فيتنام السِّياحيَّة المُحفِّزة على خوض التَّجربة والتقاط الصوَر التذكاريَّة الملهمة. المناظر الفاتنة، والرِّيف الباذخ، والبساتين الفائضة بالحُسن والجَمال، وألوانها الزَّاهية الَّتي تسلب الأنظار، والجداول والأنهار والبحيرات الَّتي تمتزج مياهها النقيَّة بالتُّربة الزِّراعيَّة المتشبِّعة بها تنشر في الأجواء الطراوة والنَّدى ونفحاتها العطريَّة الفواحة... وتقدّم لراكب الحافلة السِّياحي «اللَّيلي» على مدى ست ساعات لوحة خياليَّة تتجسد واقعًا أمام ناظرَيْه، من النَّوع الَّذي لم يألفْه إلَّا في المشاهد السينمائيَّة الَّتي تأخذه ليغوصَ في أعماق الطَّبيعة عَبْرَ رحلة ماتعة أقرب إلى خرافات «ألف ليلة وليلة»، بل إنَّ ما تقع عَلَيْه عيناي من مناظر مدهشة تتفوق عَلَيْها في الجَمال والتَّنوُّع والتَّناسق. وقد استثمرتِ الحكومة بالشَّراكة مع القِطاع الخاصِّ والمستثمرين الأجانب في مزج يجمع بَيْنَ الاستثمار العالَمي والإدارة المحليَّة، في «سابا»، بإقامة الفنادق والأسواق والمقاهي والمطاعم والمكاتب السِّياحيَّة والخدمات الترفيهيَّة واللمسات واللَّوحات الجَماليَّة ووسائل النَّقل المريح الَّتي توفِّر للسَّائح متطلباته وفقًا لرغباته وضمان راحته وسهولة الوصول إلى منابع الشَّلالات والجداول المائيَّة والغابات والأرياف الباذخة وزيارة القرى السَّاحرة الصَّامدة منذُ آلاف السنين في بطون الأودية والأنهار وسفوح الجبال وقِممها تغذِّيها المياه الطَّبيعيَّة المتدفِّقة والمنسابة والمنهمرة من منابعها الوفيرة وعيونها الكثيرة، ووظف أبناء هذه القرى الازدهار السِّياحي وجَمال منطقتهم، لعرضِ وترويج وبيع الصِّناعات اليدويَّة والنَّسيجيَّة والملابس التقليديَّة، وإنشاء وافتتاح المطاعم والمقاهي الَّتي توفر للسَّائح وتقدِّم أشكالًا ومذاقات لاحتساء القهوة والمشروبات وعصائر الفواكه الطَّبيعيَّة وتبادل الأطباق المحليَّة في أجواء منعشة صاخبة بجَمال الطَّبيعة وفتنتها، فالسِّياحة قِطاع واعد مزدهر ومستدام ويغني الاقتصاد الوطني بموارده السخيَّة متى ما استثمر فيها بأمانة وإخلاص وفق الخطط المدروسة والمتقنة، و»سابا»، في فيتنام خير مثال على ذلك. «يتبع».
سعود بن علي الحارثي