في منطقة كثيرًا ما تتَّسم بالاضطراب والتَّحالفات المتغيرة، تمكنتْ سلطنة عُمان وباقتدار من ترسيخ دَوْر فريد كجسر دبلوماسي محايد وموثوق في حنكته، فلجأ إِلَيْها العالَم وبشكلٍ متزايد بحثًا عن التَّهدئة والاستقرار والحوار. فمنذُ أن اشتد التَّوَتُّر بالمنطقة وقَبل انطلاق الرصاصة الأولى بالصِّراع «الإسرائيلي» الإيراني، تتابع ورود الاتِّصالات طلبًا للحكمة العُمانيَّة لأجلِ السَّعي لضمانِ الاستقرار بالمنطقة والعالَم. وخلال الأشْهُر الماضيَّة من مارس، أبريل، مايو ويونيو تلقَّى حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ اتِّصالات هاتفيَّة من عدد من الرؤساء والمسؤولين مِنْهم الرَّئيس الأميركي ورئيس وزراء المملكة المُتَّحدة والأمين العام للأُمم المُتَّحدة والرَّئيس التركي والمستشار الألماني ورئيسة وزراء إيطاليا، تمحورت تلك الاتِّصالات حَوْلَ تبادل وجهات النَّظر حَوْلَ القضايا الإقليميَّة والدوليَّة الرَّاهنة والجهود المبذولة لدعم وتسهيل مساعي تحقيق السَّلام بالمنطقة. وفي سياق مواصلة سلطنة عُمان للجهود الدبلوماسيَّة الحثيثة لاحتواء التَّصعيد غير المسبوق في الصِّراع «الإسرائيلي» الإيراني الَّذي أشعل فتيل التَّوَتُّر الإقليمي الرَّاهن، تتابعت سلسلة الاتِّصالات مع مختلف الدول الشَّقيقة والصَّديقة كان أحدثها نهاية الأسبوع اتِّصالات هاتفيَّة بَيْنَ وزراء خارجيَّة كُلٍّ من سلطنة عُمان وروسيا والصِّين. تتواصل هذه الرّيادة العُمانيَّة الدَّاعية للسِّلم والاستقرار في ظلِّ مشهد شرق أوسطي يزداد انقسامًا وتقلُّبًا، حيثُ النِّزاعات تتصاعد والتَّحالفات تتبدل، فتظلُّ سلطنة عُمان كاستثناء نادر وصوت هادئ ومحايد يدعو إلى الحوار بدلًا من الانقسام. وبَيْنَما تتنافس القوى العالَميَّة على النفوذ في شرق أوسط ملتهب الاشتعال، تتَّجه الأنظار في كُلِّ الأوقات إلى مسقط لا طلبًا للقوَّة والتَّدخُّل العسكري، بل طلبًا للوساطة وسعيًا للاستقرار بقدر الإمكان. إنَّ تطلُّع دول العالَم لتحقيق الاستقرار عَبْرَ سلطنة عُمان ليس نابعًا من فراغ، بل مرتكز على ما تتمتَّع به سلطنة عُمان من مصداقيَّة كوسيط للسَّلام ذي منهج دبلوماسي هادئ وسياسة خارجيَّة محايدة وثابتة. فقد حرصتْ سلطنة عُمان طوال مَسيرتها الدبلوماسيَّة رافضة للانحياز في الصِّراعات، بل حريصة على الحياد الَّذي أكسبها احترامًا واسعًا من القوى الغربيَّة والإقليميَّة، وجعل مِنْها وسيطًا موثوقًا وفعَّالًا وناجحًا في كُلِّ ما يسعى إِلَيْه في الوصول إلى الحلول والتَّوافقات السلميَّة. إنَّ قوَّة الدبلوماسيَّة العُمانيَّة تكمن في اتِّساقها فهي لا تتبدل تبعًا لمزاج الجغرافيا السِّياسيَّة. فقَدِ اتَّضح ذلك الاتِّساق جليًّا في دَوْرها بتسهيل المحادثات بَيْنَ الولايات المُتَّحدة وإيران والَّتي أسهَمتْ في التَّوَصُّل إلى الاتِّفاق النَّووي عام 2015. كما استضافتْ جولات من الحوار بَيْنَ الأشقَّاء اليمنيِّين وقدَّمتْ دعمًا إنسانيًّا دُونَ ضوضاء، فضلًا عن جهودها المُعلَنة وغير المُعلَنة لحلحلة الكثير من قضايا المنطقة. وعلاوةً على كُلِّ ذلك فإنَّ الجغرافيا المكانيَّة تضيف بُعدًا استراتيجيًّا آخر لِدَوْر سلطنة عُمان. فموقعها على مشارف مضيق هرمز الَّذي يُعَدُّ شريان الطَّاقة العالَمي يمنحها وزنًا جيوسياسيًّا لا يُستهان به. لكنَّها لم تسعَ يومًا لاستخدام هذا الموقع للضَّغط أو التَّصعيد، بل وظَّفته لتعزيز الأمن البحري والاستقرار الإقليمي. جميع تلك المعطيات الجيوسياسيَّة جعلتْ من عُمان ودبلوماسيَّتها القائمة على الاعتدال، واستقرارها الدَّاخلي، وانفتاحها الخارجي بلا تدخُّل، جعلتْ مِنْها نموذجًا نادرًا في الحكمة وشريكًا موثوقًا في عواصم الشَّرق والغرب على حدٍّ سواء. ولم تقتصرْ ريادة السَّلطنة في استعانة العالَم بها في السَّعي لتحقيق الاستقرار والسَّلام، بل تجلَّت حكمتها وموثوقيَّة شراكاتها أيضًا في توسُّع أدوات القوَّة العُمانيَّة النَّاعمة، إذ تنشط سلطنة عُمان في الدبلوماسيَّة البيئيَّة الَّتي هي ذراع آخر من أذرع تحقيق الاستقرار وسلامة حياة الإنسان، إذ تُعَدُّ عُمان شريكًا فاعلًا في التَّعاون الدولي لحلِّ المشاكل البيئيَّة عَبْرَ التَّعاون والتَّفاوض وتبادل الخبرات وتشجيع المبادرات التنمويَّة الإقليميَّة لأجلِ الإنسان ودُونَ الانخراط في أحلاف عسكريَّة أو كُتلٍ سياسيَّة ضاغطة قد تؤثِّر على حياديَّتها. ومع تصاعد التَّوَتُّرات مجددًا في الخليج والبحر الأحمر نتيجة للصِّراع الإيراني «الإسرائيلي»، يتدافع العالَم من جديد نَحْوَ عُمان طلبًا لحكمتها وسعيًا لنتاجات حضورها الثَّابت، خصوصًا وأن الثِّقة في عالَم الدبلوماسيَّة قد تكُونُ أقوى من القوَّة العسكريَّة، حيثُ بَنَتْ سلطنة عُمان هذه الثِّقة بصبر وهدوء وإصغاء للآخر.. ولرُبَّما هذا ما تحتاجه مشاكل الشَّرق الأوسط والعالَم اليوم، وذلك في زمن يعلو فيه صخب السِّياسة وترتفع فيه أصوات الانفجارات.
طارق أشقر
من أسرة تحرير «الوطن»