ان المغفور له والدي يمتلك حاسَّة سادسة قويَّة بسُلوكيَّات الإنتاج ورؤوس الأموال وأنماطها. وليس هذا بغريب على تاجر قضى سني حياته في عالَم العَرض والطَّلب، ناهيك عن ريادته، كمستورِد للأقمشة والغزول من أهمِّ مصادرها (اليابان والصِّين) رُبَّما كان ذلك هو سرَّ نجاحه، خصوصًا بعد زيارته للصِّين على أوائل سبعينيَّات القرن الماضي، إذ قدَّمت له حكومة الصِّين الشيوعيَّة (على سنوات الرَّئيس «ماو تسي تونج» ورفیقه «شو إن لاي»)، أقول قدَّمت له «رجَّة وعي»، مفادها أنَّ الصِّين تستطيع أن تنتجَ كُلَّ شيء وأيَّ شيء قد يخطر على بال إنسان، بدليل أنَّ المرحوم والَّذي كان يأخذ أرقى نماذج الأقمشة والخامات اليابانيَّة، ثمَّ يطلب من الصينيِّين إنتاج مكافئات لها بأسعار زهيدة: وما هي إلَّا بضعة أيَّام ويأتي الردُّ الصِّيني بالموافقة على إنتاج وتصدير ذات البضاعة «اليابانيَّة»، ولكن بسعر أدنى بكثير من السِّعر المطروح من قِبل الشَّركات اليابانيَّة. وهكذا حقَّق والدي أرباحًا جيِّدة من خلال اعتماده على قدرة الصينيِّين غير المحدودة على «محاكاة» المنتَجات المتطوِّرة والمُعقَّدة الَّتي تُقدِّمها الشَّركات الرأسماليَّة من مختلف دوَل العالَم، فما بالك بإنتاج السيَّارات والطَّائرات! ويبدو أنَّ الإدارة الأميركيَّة الحاليَّة، بقيادة الرَّئيس دونالد ترامب، تعي قدرات الصِّين غير المحدودة (مثل المرحوم والدي) على محاكاة أيِّ مصنوع غربي أو ياباني (من الإبرة إلى الطَّائرة)، لذا فإنَّها راحتْ تصرِّح بخشيتها من قَبول الطَّلبة الصينيِّين في الجامعات الأميركيَّة المرموقة، خائفة من سرقة هؤلاء الطَّلبة (الموفدين من بكين) أسرار الابتكار الأميركي وإرسالها إلى الصِّين لإنتاج مكافئات لها ! وهكذا تحوَّلتْ قدرة الصِّين على «محاكاة «منتَجات الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة إلى «فوبیا» أميركيَّة حقيقيَّة، درجة أنَّ إدارة الرَّئيس ترامب هي الآن بصدد سحبِ ومنعِ إصدار تأشيرات دخول Student Visas للطَّلبة الصينيِّين الَّذين يرومون الدِّراسة في الجامعات الأميركيَّة المعتبرة مثل «هارفرد» أو «الیفورنیا» أو «مشيجان». وهكذا، فهؤلاء الطَّلبة الصِّينيون في موضع شك بأنَّهم مبتعثون من قِبل الحزب الشُّيوعي الصِّيني للحصول على أهمِّ المبتكرات العلميَّة الأميركيَّة، ثمَّ إرسالها إلى الصِّين الشَّعبيَّة، حيثُ تتمكن الأخيرة من إنتاج مكافئات دقيقة لها لتغزوَ أسواق العالَم بها بعدئذ!
أ.د. محمد الدعمي
كاتب وباحث أكاديمي عراقي