كُلَّما ظننت أنَّ هذه الأرض قد رويت من الدم، تفتح غزَّة جرحًا جديدًا لا يندمل، وكُلَّما تصورت أنَّ العالَم قد وصل إلى القاع، يفاجئنا بمزيد من الانحدار الأخلاقي، كأنَّ ما نراه من مجازر لم يَعُدْ كافيًا، أو أنَّها مقاطع أرشيفيَّة تُعاد عَلَيْنا يومًا بعد يوم، لا أعرف ما هو الأبشع من وجهة نظر هؤلاء، أن تباد مدينة أمام أعين الكوكب، أم أن يكافأ القاتل بحصانة دوليَّة، لم أعدْ أجد وصفًا لهذا الصَّمت العالَمي سوى أنَّه شراكة كاملة في الجريمة، وآخر هذا الصَّمت المريب، هو اختطاف السَّفينة (مادلين)، والَّذي لم يكُنْ حادثًا هامشيًّا، لكنَّه لحظة انكشاف، حيثُ يقوم احتلال مدجج بالسلاح ملاحقة قاربًا صغيرًا يحمل فنانين وأطباء وناشطين قرروا فقط أن يقولوا لا للحصار، فاعترضهم كما تعترض الجيوش سفن العدو، وكأنَّ الخوف من الكلمة أصبح أشد من الخوف من الرصاصة، ما حدَث مع هذه السفينة لا يُمكِن النظر له كتجاوز، لكن عَلَيْنا وضعه في مكانه الطبيعي كإعلان وقح بأن التضامن نفسه بات ممنوعًا، وأن حتَّى الرحمة قد تعتقل في عرض البحر دُونَ أن يهتز للعدالة رمش. إنَّ المواقف المتكررة الَّتي نراها وآخرها اختطاف (مادلين)، تؤكِّد أنَّ غزَّة لم تَعُدْ قضيَّة فلسطينيَّة فحسب، لكنَّها تحولت إلى ميزان يقاس به منسوب الضمير البَشَري في هذا العصر الملوَّث بالصَّمت المشارك في القتل، فهذه المدينة المحاصرة منذ أكثر من عقد ونصف لا تطلب سوى أن تترك لتعيش، تأكل وتعالج، أن ينام سكَّانها دُونَ ضجيج الطائرات في السماء، لكن رغم بساطة الحلم يظلُّ الكابوس يطاردهم، وتظلُّ غزَّة تقصف وتجوع وتعاقب دُونَ جرم. والأغرب أنه رغم هذا الإجرام الصهيوني، لا يرفع في وجه قاتلها سوى كلمات مكررة عن (القلق) و(الدعوات لضبط النَّفْس)، لا أحد يضبط نفسه في غزَّة، سوى الأُمَّهات اللاتي يحاولن تهدئة أطفالهن وهم يرتجفون تحت ركام البيوت، حين يصبح التضامن معها موقفًا شائكًا في دوائر القرار، نعلم أنَّ الإنسانيَّة لم تَعُد المرجع، وأنَّ القانون الدولي ما هو إلَّا حبر يصلح للاستهلاك الإعلامي فقط، غزَّة لا تسأل عن الصدقات، ولا تتوسل التعاطف، إنَّها تسأل، ومن حقِّها أن تسأل: كم من الوقت يحتاجه العالَم ليعترف بأن السكوت جريمة؟ وأن الإدانة الباردة لا توقف المجازر؟، وأن الصمت عجز لا يُمكِن استمراره؟. أما أولئك الَّذين صعدوا إلى سفينة (مادلين)، فطوبى لهم ولكل نفس أبتِ الصمت في زمن الخنوع، فهم لم يحملوا رايات دول، ولا شعارات حزبيَّة، بل ضمائر حيَّة أبت أن لا تستسلم لهذا الانهيار، إنَّهم أشخاص لا يجمعهم دِين أو جنسيَّة، لكنَّهم التقوا عند النقطة الَّتي يبدأ فيها الإنسان الحقيقي، وهي الرغبة في فعل شيء، ولو كان بسيطًا، في وجْه ظلم لا يتوقف، هؤلاء لم يركبوا البحر بحثًا عن شهرة أو انتصار رمزي، بل لأنَّهم لم يحتملوا فكرة أن تباد مدينة وهم صامتون، إنَّهم وإن لم يكُونُوا أقوياء، لكنَّهم شجعان في زمن الجبن، فهم تسلحوا بإصرار يكفي ليواجهوا هذا الكيان الصهيوني الإرهابي بلا درع سوى ضميرهم، هؤلاء الَّذين قرروا أن يقولوا لا للحصار من قلب البحر، فعلوا ما لم تفعله حكومات تملك الجيوش والمال والميكروفونات، والحناجر الَّتي صدعت رؤوسنا طوال عقود، ولعلَّ أكثر ما يكشف ما وصلنا له من تدنٍّ. إن جود أبناء الحريَّة في القارب أضحى في حد ذاته جريمة في عرف الاحتلال؛ لأنَّ وجودهم يُذكّر بأنَّ غزَّة ليسَتْ وحدها، وأنَّ الصورة قد تفضح الجريمة أكثر من ألف بيان. لكن السؤال الأكبر لا يتعلق فقط بالمحتل، بل بمن يمنحه كُلَّ هذه الحصانة ليتمادى، ويضرب، ويقتل، ويعتقل، ثم يعود إلى منصَّات الأُمم ليتحدث عن الأمن والسلام، فالجريمة لا تكتمل إلَّا عندما يحميها نظام. والاحتلال اليوم لا يحتمي فقط بجنوده، بل بحكومات تغذيه بالسلاح، وتمنع عنه العقوبات، وتعرقل كُلَّ مسار للمحاسبة، وعلى رأسها الولايات المُتَّحدة، الَّتي لم تَعُدْ مجرَّد طرف منحاز، بل شريك مباشر في القتل، فهناك أحَد عشر قرارًا أُمميًّا أُجهضت بفيتو واحد، ومليارات تضخ لدعم آلة الحرب، وغطاء سياسي يمنح بسخاء لمن يدفن العائلات تحت الركام، كيف يُمكِن أن نتحدث عن العدالة في ظل هذه الوقائع؟ وكيف نطلب من الضحيَّة أن تصمد، بَيْنَما العالَم يضع المتَّهم في مقعد القاضي؟ إنَّ الإفلات من العقاب لم يَعُدْ مصادفة، بل سياسة ممنهجة، وما لم يتحول الغضب العالَمي إلى فعل، سنبقى نكتب المراثي فيما الحصار مستمر، والمجزرة قائمة، والإنسانيَّة تكسر على مرأى العالَم.
إبراهيم بدوي