في زمنٍ طغَى فيه ضجيج المادّة على همسِ الرُّوح، تأتي وقفة عرفات كأعظم دعوة للصَّمتِ الدَّاخلي، فهي ليسَتْ شعيرة موسميَّة، لكنَّها لحظة كونيَّة نادرة تنادي الإنسان بأنْ يقفَ أمام نَفْسِه، لا أعلى عرفات فقط.. فملايين الحجَّاج يقفون هناك بأجسادهم، لكن مَن بَقِيَ في بقاع الأرض المختلفة يُمكِنه أنْ يقفَ بِرُوحِه، وأنْ يُعِيدَ النَّظر في نَفْسه من الدَّاخل، خصوصًا رُوحَه الَّتي أنهكها الرَّكض خلْفَ ما لا يُشبع.. فوقفة عرفات في معناها العميق، ليسَتْ مكانًا جغرافيًّا نسعَى إِلَيْه أو شعيرة لا يتمُّ الحجُّ بِدُونِها، بل مقام معنوي، حيثُ يذوبُ التَّكبُّر، وتسقطُ الأقنعة، وتنكشفُ النَّفْس على حقيقتها، وتبدأ محاولات الصُّلح مع الذَّات والاتِّجاه نَحْوَ الله. إذ الوقفة هناك هي إعلان توبة وسعي لإزالة ذنوبٍ عالقة، وهي أيضًا تذكيرٌ فردي لكُلِّ إنسان بأنَّ العودة ممكنة مهما كانتِ المسافة، بَيْنَ الزِّحام والحرارة والدُّعاء، يولدُ شيء نقي يُشبه بداياتنا، ويُشبه ما ننساه كثيرًا وهو أنَّنا فقراء إِلى الله، وأنَّ كُلَّ ما نملكه زائل إلَّا النيَّة الصَّادقة والعمل الصَّالح. في عيد الأضحى لا نزال نتمسَّك بالمظهر، حيثُ نذبح الأضاحي، في حين أنَّ ما نحتاجه هو تهيئة القلوب للذَّبح الحقيقي وهو ذبح الغل، والأنانيَّة، والكِبر، وكُلِّ ما يجعلنا أقلَّ إنسانيَّة. فما نُقدِّمه قربانًا لله، لا يُقاس بحجم الأُضحية، بل بحجم ما نفرِّط فيه من صفات سيِّئة اكتسبناها، كثيرون يُمارسون العيد كطقسٍ اجتماعي: ملابس، لقاءات، تهانٍ، لحوم توزَّع، وذكريات تُصوَّر.. لكنَّ القليلَ منَّا يشعُر بعظَمتِه ورسالته كفرصة تطهير روحي. لقَدْ أصبح العيد محطَّة استهلاكيَّة، لذا نحتاج أنْ نُعِيدَ للعيدِ معناه الأصلي، إنَّه الفداء الأعمُّ الَّذي لا يُشترى، بل يُنتزع من رُوحِك انتزاعًا، حين تختار أنْ تغيِّرَ، أنْ تسامحَ، أنْ تعفوَ، أنْ تتخلَّى عمَّا لا يستحقُّ أنْ يبقَى فيك.. فسيِّدنا إبراهيم ـ عَلَيْه السَّلام ـ لم يُختبرْ في سكِّينه، لكن في ثقتِه بالله واعتمادِه عَلَيْه، وابنه إسماعيل ـ عَلَيْه السَّلام ـ لم يُمتحنْ في جسدِه، بل في تسليمِه بقضاء الله وطاعة والده.. إذًا عَلَيْنا أنْ نسألَ أنْفُسنا ما الَّذي نحْنُ مستعدُّونَ فعلًا لتقديمِه؟ العالَم مِن حَوْلِنا يتداعَى، لا بفعلِ الحروب فقط، بل بفعلِ موت المعنى. كُلَّ يومٍ نشهدُ فيه انحدارًا في الوعي، وركضًا محمومًا خلْفَ المظاهر، وتكلُّسًا في الضَّمائر، ففي هذا الزَّمن تحديدًا نحتاج وقفة عرفات، ليس كَيْ نُلبِّيَ ونُقِيمَ الشَّعيرة، لكن لِكَيْ نُصغيَ لِمَا لم نَعُدْ نسمعه، حيثُ صوتُ الله في داخلنا، نداء الضَّمير حين يضعف، وارتجاف القلب حين يتذكَّر أنَّه زائل وأنَّ الدُّنيا فانية، نحن نعيش في عالَم يُطالبنا بأنْ نكُونَ مُنتِجَين لا متأمِّلِين، ناجحِين لا طيِّبِينَ، أقوياء لا رحماء، أمَّا عرفات وعيده فيدعونا إلى أنْ نكُونَ بَشرًا خالِصِين وخاضعِين لله، لا نُقاسُ بما نملكُه، ولا بما نُنجزه من متاع الدُّنيا الزَّائل، بل بما نحملُه من نيَّة صادقة، وما نغفرُه من أخطاء، وما نزرعُه من رحمة، فالوقوف في عرفات ـ ولو من خلْفِ الشَّاشات ـ ليس ترفًا روحيًّا، إنَّما ضرورة إنسانيَّة في زمن يُهدِّد بتجريدنا من أنْفُسنا، إنَّها لحظة للعودة إلى الله، لِمَن أرادَ أن لا يفقدَ نَفْسَه وسط ضجيج هذا العالَم المادِّي التَّعس. إنَّ الاستفادة والاستزادة من عرفات يَجِبُ أنْ تخرجَنا مِنْه كما دخلناه، لا يَجِبُ أنْ يُشبَه ما قَبله، مَن وقف هناك، أو عاش الوقفة قلبًا، لا يخرج كما دخلَ، لا يَعُود للحياة بذات الخفَّة، ولا يتعامل مع النَّاس بذات الجفاء.. إنَّ هذه الأيَّام المباركة نستطيع خلالها تدريب أنْفُسنا على أنْ نكُونَ أنْقَى، وأصْدَق، وأكثر قربًا من الله وحقيقتنا الَّتي فُطرنا عَلَيْها قَبل أنْ يُغطيَها غبار الحياة، ففي كُلِّ عيد نُمنح فرصة، لا لِنجدِّدَ طقوسنا، بل لِنجدِّدَ أنْفُسنا، ونُعِيدَ ترتيب أولويَّاتنا، ونُخفِّفَ من ثقلِ الدُّنيا على أرواحنا.. فالعيد ليس في ما نرتديه، بل في ما نخلعه من أحقاد وكبرياء وتعلُّق أعْمَى بمباهج الدُّنيا الفانية.. فَلْنُحْيِ هذا العيد كما أراده الله عِيد التَّوبة، عِيد الصَّفاء، عِيد الإنسان حين يَعُود إلى الله متجرِّدًا من كُلِّ شيء... إلَّا قلبًا سليمًا.