الجمعة 06 يونيو 2025 م - 10 ذو الحجة 1446 هـ
أخبار عاجلة

في العمق: اللغة العربية .. مقومات تنافسية حاضرةn فـي شرايين الاقتصاد كما هي فـي وجدان الوطن

في العمق: اللغة العربية .. مقومات تنافسية حاضرةn فـي شرايين الاقتصاد كما هي فـي وجدان الوطن
الثلاثاء - 03 يونيو 2025 06:10 م

د.رجب بن علي العويسي

310

في زمنٍ تتسارع فيه التَّحوُّلات الثَّقافيَّة والاقتصاديَّة، وتزداد فيه الضُّغوط العالَميَّة على الهُوِيَّات الوطنيَّة، تبرز مسألة اللُّغة بوصفها الحصن الأخير للانتماء والخصوصيَّة، ومرآة للذَّات في مواجهة الآخر. لقد حملني هذا الإحساس العميق بمسؤوليَّة الانتماء في فترة سابقة، إلى استشعار دَوْر اللُّغة العربيَّة تجاريًّا في تشكيل ملامح الهُوِيَّة الوطنيَّة، نتج عَنْه طرح جملة من المقالات في هذه الجريدة الغرَّاء لعلَّ أبرزَها ارتباطًا بالموضوع المطروح؛ مقال بعنوان: «أهميَّة توظيف الأسماء التجاريَّة عُمانيًّا» ومقال بعنوان «ما أهميَّة تعريب المصطلحات الأجنبيَّة للعلامات التجاريَّة فـي محال الوجبات السَّريعة والمراكز التجاريَّة وعلاقته بالهُوِيَّة العُمانيَّة؟» ومقال بعنوان: «الاختيار اللائق لمُسمَّيات المنشآت السياحيَّة والتجاريَّة وأهميَّته التَّسويقيَّة»؛ جاء ذلك الطَّرح نابعًا من قناعة راسخة بأنَّ اللُّغة ليسَتْ فقط وسيلة للتَّخاطب، وإنَّما هي الوعاء الَّذي يحمل الذَّاكرة الجماعيَّة، والقِيمة الثَّقافيَّة، والهُوِيَّة الحضاريَّة لشَعبٍ بأكمله. واليوم، أجد نَفْسي أقف موقف الفخر والاعتزاز، حين أستحضر هذه المقالات وأعيد قراءة ما بَيْنَ السُّطور من كلمات، في ضوء ما جاء في بيان مجلس الوزراء الموقَّر من تأكيد وطني نبيل على الاعتزاز باللُّغة العربيَّة بوصفها أحَد أهمِّ المُقوِّمات الحضاريَّة للهُوِيَّة الوطنيَّة في سلطنة عُمان، وعلى ضرورة تعزيز حضورها في مختلف مناحي الحياة، ومِنْها المجال الاقتصادي والتِّجاري، ولِمَا يُمثِّله هذا القرار من غطاء رسمي وتشريعي داعم لأيِّ تَوَجُّه نَحْوَ تعريب الأسماء التجاريَّة وضبط استخدام المصطلحات في القِطاعَيْنِ العامِّ والخاصِّ. لقد أكَّدتْ سلطنة عُمان في نظامها الأساسي، الصَّادر بالمرسوم السُّلطاني رقم (6/2021)، على أنَّ اللُّغة العربيَّة هي اللُّغة الرَّسميَّة للدَّولة، وجاءت رؤية «عُمان 2040» لِتضعَ محور «الهُوِيَّة الوطنيَّة والاعتزاز بها» ضِمن أولويَّاتها، معززةً بذلك مبدأ أصيلًا لَطالَما تبنَّته عُمان في سياستها الدَّاخليَّة والخارجيَّة، وهو التَّوازن بَيْنَ الأصالة والمُعاصرة. كما نصَّتْ مبادئ فلسفة التَّعليم في السَّلطنة على أهميَّة «إتقان اللُّغة العربيَّة والاعتزاز بها»، وربطتْ هذا الهدف الجوهري بترسيخ الانتماء الوطني والعربي والإسلامي، وتحقيق التَّكامل مع مستجدَّات العصر. ومن هذا المنطلق، فإنَّ ما نشهده من انتشار غير منضبط للمصطلحات الأجنبيَّة في أسماء الأنشطة التجاريَّة لا يُمكِن قراءته بمعزل عن التَّحدِّيات الثَّقافيَّة الَّتي تواجهها اللُّغة العربيَّة، ولا عن أثَر ذلك على مفاهيم الانتماء لدَى الأجيال القادمة. فالتَّعامل مع اللُّغة على أنَّها مجرَّد أداة وظيفيَّة يُسهم في إضعاف دَوْرها كأداة لبناء الوعي الوطني، ومصدر للإلهام الثَّقافي، وقناة لتعزيز الهُوِيَّة. وإذا لم نُدرك هذا الأثر، فقد نجد أنْفَسنا أمام واقع يُصعب فيه الدِّفاع عن اللُّغة العربيَّة بوصفها لُغة علم واقتصاد وفكر، في ظلِّ التَّراجع التَّدريجي لمكانتها في فضائنا التِّجاري والثَّقافي اليومي، فاللُّغة ليسَتْ مجرَّد وسيلة تواصُل، بل هي ذاكرة القِيَم والرُّموز والمعاني الَّتي تُشكِّل وعي الفرد وتُغذِّي ارتباطه بوطنه وتاريخه. وعِندَما يتمُّ تجاهل اللُّغة العربيَّة في الفضاء العامِّ، ويُترك المجال مفتوحًا لسيطرة الأسماء والمصطلحات الأجنبيَّة، فإنَّ ذلك لا يُهدِّد مكانة اللُّغة فحسب، بل يُقوِّض أحَد أُسُس المواطنة الثَّقافيَّة ويضعف أواصر الانتماء. وهذا التَّراجع اللَّغوي لا يُمكِن عزله عن صورة الوطن، فكُلَّما حضرتِ اللُّغة العربيَّة بكرامة في الواجهة، انعكس ذلك على صورة البلد وهُوِيَّته، وكُلَّما توارتْ خلْفَ المصطلحات الوافدة، حمل ذلك دلالة رمزيَّة على تراجع الثِّقة بالذَّات الوطنيَّة. إنَّ متابعة المشهد التِّجاري المحلِّي، خصوصًا في محالّ الوجبات السَّريعة والمراكز التجاريَّة، تكشف عن ظاهرة لا تزال بحاجة إلى معالجة جادَّة، تتمثل في استخدام أسماء وعلامات تجاريَّة أجنبيَّة مكتوبة بحروف عربيَّة، دُونَ أيِّ ترجمة أو تعريب يُظهر صلتَها بالبيئة العُمانيَّة أو باللُّغة الرَّسميَّة للدَّولة. وقد باتَ شائعًا استخدام أسماء مثل «كوفي شوب»، و»هوم تست»، و»كرك فور تي»، وغيرها، بصيغها اللُّغويَّة الأجنبيَّة رغم كتابتها بأحْرُف عربيَّة، وهو ما يجعل هذه العلامات في ظاهرها جزءًا من المشهد المحلِّي، لكنَّها في عمقها تُسهم تدريجيًّا في تآكل الحضور الثَّقافي للُّغة العربيَّة في حياة المواطن اليوميَّة، وخصوصًا بَيْنَ فئة الشَّباب. ذلك أنَّ المسألة لا تتعلق بمجرَّد اسمٍ تجاري، بل بما يحمله من دلالات ثقافيَّة عميقة. إنَّ الاسم التِّجاري هو الواجهة الَّتي يخاطِب بها النَّشاط التِّجاري جمهوره، وهو الأداة الَّتي تُخزن في الوعي الجمعي، وتُردِّدها الألسنة، وتُرسّخ في أذهان النَّشء. وحين تغيب اللُّغة العربيَّة عن هذه الواجهات، تغيب معها رمزيَّة الانتماء، وتضعف جذور الهُوِيَّة، ويصبح المواطن متلقيًّا لثقافة مستوردة لا تُمثِّله، دُونَ أن يدركَ أنَّها تُقدَّم إِلَيْه على نَحْوٍ يومي، عَبْرَ لوحة إعلانيَّة أو قائمة طعام أو شعار محل. ولا شكَّ أنَّ هذا الواقع يضعنا أمام مسؤوليَّة جماعيَّة تستدعي تدخُّل الجهات المُختصَّة، وعلى رأسها وزارة التِّجارة والصِّناعة وترويج الاستثمار، للنَّظر في وضع الضَّوابط والمعايير الَّتي تَضْمن احترام اللُّغة العربيَّة في تسمية الأنشطة التجاريَّة، دُونَ المساس بحقوق العلامات العالَميَّة، وإنَّما بإعادة إنتاجها ثقافيًّا بما ينسجم مع الهُوِيَّة العُمانيَّة. فتعريب الأسماء التِّجاريَّة أو اختيار مُسمَّيات عربيَّة مبتكرة يُعَدُّ ليس فقط واجبًا ثقافيًّا، بل فرصة استثماريَّة تُسهم في خلق علامات محليَّة ذات صبغة حضاريَّة قادرة على المنافسة، وتعزِّز الثِّقة بَيْنَ المستهلك والمُجتمع التِّجاري، وتفتح أبوابًا واسعة للشَّراكات النَّوْعيَّة مع الأسواق العالَميَّة، انطلاقًا من الخصوصيَّة العُمانيَّة وليس انصهارًا في الآخر. كما أنَّ الدَّعوة لتوظيف الأسماء التجاريَّة عُمانيًّا ليس رفضًا للآخر، بل هو تأكيد على الهُوِيَّة والاعتزاز بالتُّراث الوطني، وتعبير عن الجهود المبذولة للحفاظ على المُقوِّمات الحضاريَّة لسلطنة عُمان وتعزيز الانتماء الوطني في كُلِّ مناحي الحياة. عَلَيْه، فإنَّ ارتباط اللُّغة العربيَّة بالاقتصاد لم يَعُدْ أمرًا نظريًّا، بل أصبح توَجُّهًا عالَميًّا في ظلِّ بروز «اقتصاد المعرفة»، حيثُ تُعَدُّ الأُصول الفكريَّة والثَّقافيَّة واللُّغويَّة من أهمِّ روافد الاستثمار الحديث. واللُّغة، بوصفها أداة تسويق وتواصُل، تمتلك القدرة على خلقِ سرديَّات تجاريَّة تحمل في طيَّاتها قِيمة معنويَّة كبيرة، يُمكِن أن تترجمَ إلى مكاسب اقتصاديَّة ملموسة، إذا ما تمَّ توظيفها بشكلٍ ذكي يُعَبِّر عن الهُوِيَّة ويخاطِب وجدان المستهلك في آنٍ واحد. كما أنَّ الترجمة العربيَّة للأسماء التجاريَّة ليسَتْ مجرَّد إضافة لُغويَّة، بل هي فعل ثقافي يعكس احترام الذَّات الوطنيَّة، ويُعَبِّر عن اعتزاز المواطن بلُغته وهُوِيَّته، ويُكرِّس حضوره الواعي في فضائه الثَّقافي والاجتماعي والاقتصادي. حين يُسمِّي المستثمر مشروعه باِسْمٍ عربي أو عُماني جميل، فإنَّما يُطلق رسالة واضحة تقول بأنَّ اللُّغة العربيَّة ليسَتْ مجرَّد لُغة رسميَّة، بل لُغة قادرة على حمل مفاهيم الجَمال، والذَّوق، والتَّسويق، والتَّأثير. وإنَّ تعزيز هذا التَّوَجُّه يخلق حالة من التَّراكم الثَّقافي الَّذي يتجاوز النَّشاط التِّجاري إلى بناء علاقة وجدانيَّة بَيْنَ المواطن وأرضه، بَيْنَ المستهلك ومحيطه الثَّقافي، بَيْنَ الشَّباب وانتمائهم العربي. فإنَّ العلاقة بَيْنَ الاسم التِّجاري والهُوِيَّة الثَّقافيَّة ليسَتْ علاقة سطحيَّة، بل هي علاقة عميقة تُؤسِّس لمشهدٍ مُجتمعي واقتصادي وثقافي متكامل، يحمل في طيَّاته رسائل غير مباشرة حَوْلَ ما نعتزُّ به، وما نُقدِّمه للعالَم. وعِندَما يرى المواطن أسماءً عربيَّة أو عُمانيَّة تزيِّن المراكز التجاريَّة والمطاعم والمحالَّ، فإنَّه يشعر بأنَّ لُغته حاضرة، وهُوِيَّته مُعترف بها، وأنَّ وطنَه ليس مجرَّد سُوق للاستهلاك، بل منصَّة للإنتاج الثَّقافي والمعرفي. أمَّا حين تطغَى المصطلحات الأجنبيَّة بلا ترجمة، فإنَّ ذلك يعمِّق الفجوة بَيْنَ المواطن ووطنِه، ويُسهم في تشكيل أنماط ثقافيَّة غير أصيلة تنساق خلْفَ الآخر دُونَ وعيٍ أو تمييز. أخيرًا، فإنَّني أجدُ في بيان مجلس الوزراء الموقَّر محطَّة تحوُّل في قِيمة الرَّأي الآخر والصُّورة الَّتي باتَ يُقدِّمها في منظومة القرار الوطني، فإنَّ ما حَظِيَ به بيان مجلس الوزراء من اهتمام وتضامن مُجتمعي منقطع النَّظير، يؤكِّد على أنَّ الاعتزاز باللُّغة العربيَّة في المجال التِّجاري لم يَعُدْ ترفًا لُغويًّا، بل أصبح ضرورة تنمويَّة ووطنيَّة تُسهم في حماية الهُوِيَّة، وتعزيز الاستثمار في المُقوِّمات الثَّقافيَّة للبلاد. وعِندَها تتحوَّل اللُّغة من أداة إلى مورد، ومن تراث إلى مشروع اقتصادي قابل للتَّسويق، إنَّه رهان على الذَّات العُمانيَّة، وعلى حضورها المبدع في عالَم يتسابق على تسويق ثقافاته. وهو استثمار في اللُّغة بوصفها هُوِيَّة، وفي الهُوِيَّة بوصفها اقتصادًا، وفي الاقتصاد بوصفه تجسيدًا للانتماء. إنَّه فعل وطني أصيل، تصحبه الإرادة والشُّعور الجمعي وحكمة القرار، يحمل في طيَّاته استحقاقات الحاضر، ورهانات المستقبل، لِتظلَّ اللُّغة العربيَّة بثرائها، وجَمالها، وعُمقها حاضرة بقوَّة في شرايين الاقتصاد، كما هي في وجدان الوطن. فهل نحن مستعدُّونَ لأن نُعِيدَ لهذه اللُّغة حضورها الطَّبيعي، ونُعِيدَ إلى أسمائنا التجاريَّة روحها العُمانيَّة، في زمنٍ تتشكل فيه الأُمم من خلال ما تستهلك، وتُعرف من خلال ما تُسمّي به؟

د.رجب بن علي العويسي

[email protected]