الخميس 05 يونيو 2025 م - 9 ذو الحجة 1446 هـ
أخبار عاجلة

الشعار يكذب على الواقع

الشعار يكذب على الواقع
الثلاثاء - 03 يونيو 2025 06:04 م

إبراهيم بدوي

10

مرَّت أسابيع قليلة على يوم الصحَّة العالَمي، الَّذي احتفتْ به منظَّمة الصحَّة العالَميَّة هذا العام بشعار (بداية صحيَّة لمستقبل واعد – صحَّة الأُمَّهات والمواليد)، وبدا الشِّعار وقتها كمحاولة ناعمة لتذكيرِ العالَم بأهميَّة المرحلة الأُولى من الحياة، تلك الَّتي تولد فيها الكرامة أو تنتزع منذُ اللَّحظة الأُولى، لكن ما بَيْنَ الـ(٧) من أبريل والـ(٣) من يونيو، انكشفتْ كذبة الشِّعار في وَجْه الدَّم، ففي غزَّة لم تكُنْ هناك بداية صحيَّة، بل نهاية دمويَّة، وهناك لم يولدِ الأطفال في أمان، لكن في صالات تقصف، وخيام بلا كهرباء، وأزقَّة تمطرها الطَّائرات، لِتموتَ أُمَّهات قَبل أن يصرخنَ، ويولد أطفال دُونَ أن يسمعَهم أحَد، وبَيْنَما كانتْ منظَّمة الصحَّة تنشر منشورات ورديَّة، كانتِ الرِّعاية تُدفن تحت الأنقاض، فلا شيء في غزَّة يُشبه شعار المنظَّمة الدّوليَّة (مستقبل واعد)، لكن هناك يُعدم على الهواء، فهل يُعقل أن تمرَّ مناسبة أُمميَّة كهذه دُونَ حتَّى إشارة خجولة إلى النِّساء اللَّاتي يذبحن وهن يلدن؟ وهل يصحُّ أن نتركَ الشِّعار معلقًا بَيْنَما الحقيقة تموت؟ إنَّ ما تحتاجه منظَّمة الصحَّة العالَميَّة ليس ميزانيَّة أكبر، ولا مؤتمرات أضخم، بقدر ما تحتاج إلى جرأة، جرأة تعترف أنَّ كُلَّ ما تفعله الآن في غزَّة لا يتعدَّى دَوْر (الرَّاصد العاجز) فهي تسمع الصَّرخات وتسجِّلها، ثمَّ تمضي لِتنشرَ تقريرًا كُلَّ أسبوع، تتحدث فيه عن تدهور (الوضع الصحِّي)، وكأنَّ القصف على أقسام الولادة مجرَّد إحصائيَّة لا مجزرة، الغريب أنَّهم ما زالوا يطالبون بتمويل لحملات دعم (صحَّة الأُمَّهات والمواليد)، في الوقت الَّذي لا يستطيعون فيه حتَّى إدانة مجازر ترتكب ضدَّ نساء عزَّل وأطفال خرجوا للحياة فقط ليموتوا بلا اسم، أنا هنا لا أطلب من المنظَّمة أن تحرَّرَ غزَّة، لكن أطلب مِنْها أن تكُونَ على الأقل صادقة، أن تعترفَ بأنَّ ما يحدُث لا يُمكِن تغليفه بلُغة دبلوماسيَّة، أن تقولَ بصوتٍ عالٍ نعم هذه حرب تستهدف الرَّحم قَبل الجبهة، والأُمَّ قَبل الجندي، والحياة قَبل أن تبدأَ، وأيّ صمتٍ عن ذلك، ليس حيادًا... بل انحطاط أخلاقي. في غزَّة، لا أحد يسأل عن الفصول؛ لأنَّ الموت هناك لا يعرف توقيتًا، هناك امرأة خرجت من بيتها تبحث عن نقطة ماء، فعادت على نقَّالة، وهناك أيضًا طفلة وُلدت تحت الأنقاض، ثمَّ اختنقتْ لأنَّها لم تجد حضانة، وأُم أُجبرت أن تلدَ في خيمة تحت المطر؛ لأنَّ المستشفى تمَّ استهدافه، هذه ليسَتْ مشاهد من فيلم رعب، بل مشاهد يوميَّة مُوَثَّقة بكاميرات الصحفيِّين الَّذين لا يُسمح لهم إلَّا أن يراقبوا العار، وفي كثير من الأحيان يكونون هم أيضًا هدفًا للكيان الصهيوني وصواريخه، لا يوجد مصطلح يصف ما يحدُث بدقَّة، فهناك في غزَّة، تتحول الأمومة إلى تهمة، والولادة إلى خطر وجودي، والطِّفل ذاك الرَّمز العالَمي للحياة، يصبح هدفًا مفضلًا، أين هو الشِّعار إذًا؟ أين هي البداية الصحيَّة الَّتي تتحدث عَنْها المنظَّمة؟ أم أنَّ هذا الصَّمت يؤكِّد أنَّ أطفال غزَّة ليسوا ضِمن الإحصاءات العالَميَّة؟ رُبَّما لأنَّهم يُولدونَ فلسطينيِّين، ويُدفنون كأرقام بلا شهادات ميلاد، نحن هنا لسنا أمام غياب للعدالة، لكنَّنا أمام نزع كامل للإنسانيَّة، بمباركة العالَم الَّذي اختار أن يرى ولا يتدخل. أكتبُ هذا المقال وأنا في حالة غضب لم أعِشْها سابقًا، فأنا غاضب من عالَم يدَّعي الرَّحمة وهو يموِّل القتلة ويستقبلهم بحفاوة، من منظَّمات صحيَّة تتغنَّى بالحياة وبمستقبل واعد، بَيْنَما تُذبح الحياة أمام عيونها، من شعارات تزيِّن بها التَّقارير بَيْنَما الدَّم يغسل وجوه الأُمَّهات في غزَّة، يوم الصحَّة العالَمي هذا العام كان إعلان إفلاس أخلاقي مدوٍّ، كان شهادة على أنَّ العالَم يملك لسانَيْنِ، وضميرَيْنِ، ووجوهًا كثيرة إلَّا وَجْه الإنسان الَّذي نحتاجه، ما يحدُث في غزَّة لا يحتاج إلى تقرير جديد، بل إلى وقفة وصراخ ورفض، لا أريد أن أرى شعار (بداية صحيَّة لمستقبل واعد) في أيِّ مكان، ما دام هناك طفل فلسطيني يُولد لِيُقتلَ، وما دامت هناك أُمٌّ تحتضر على باب مستشفى مغلق، لقد مات الشِّعار قَبل أن يُكتب. وغزَّة لم تَمُت، لكنَّها تُقاوم وحدها، وتُنجِب وحدها، وتَدفن أولادها وحدها، والعالَم يُشاهِد ويُطالِب بتمويل جديد لطباعة البوسترات.

إبراهيم بدوي

[email protected]