الأربعاء 21 مايو 2025 م - 23 ذو القعدة 1446 هـ
أخبار عاجلة

رأي الوطن : عندما تصبح الوقاية مبدأ وطنيا لا يساوم عليه

الثلاثاء - 20 مايو 2025 06:35 م

رأي الوطن

10

عِندَما تضعُ الدَّولة الإنسان في صدارة أولويَّاتها، تُصبح الصحَّة العامَّة مسارًا حتميًّا لا يُمكِن تجاهله أو تأجيله. فالمواطن السَّليم هو الَّذي ينهض بالاقتصاد، ويُغذِّي التَّنمية، ويواجِه التَّحدِّيات اليوميَّة بطاقةٍ مُتجدِّدة، وعِندَما تُفكِّر الدَّولة في رفاهيَّة مواطنيها، فإنَّ أوَّل ما تفعله هو حماية حياتهم من مُسبِّبات الخطر الَّتي قد تتسلَّل إِلَيْهم في تفاصيل الحياة اليوميَّة، وفي مقدِّمتها الغذاء، لجهة أنَّ الصِّحَّة لا تبدأ من المستشفى، بل من السُّلوك اليومي، من نَوْع الطَّعام والشَّراب، ومن وعي المُجتمع بما يستهلِك.. وسلطنة عُمان قامتْ نهضتها المباركة على شعار الصِّحَّة حقٌّ لكُلِّ مواطن، لذا حين أدرجتِ الصِّحَّة ضِمْنَ أركان رؤيتها الوطنيَّة، لم تتعاملْ معها كخدمة، بل كحقٍّ أصيل يَضْمن بقاء الإنسان في موقع الفعل لا التَّلقِّي، والصِّحَّة هنا ليسَتْ إجراءً بعد المرض، وإنَّما منظومة وقائيَّة شاملة تنطلق من التَّشريع وتصل إلى المائدة، وذلك إيمانًا بأنَّ الإنسان هو رهان المستقبل، وعَلَيْنا إدراك أنَّ كُلَّ خطوةٍ لحمايةِ صحَّته، هي خطوة نَحْوَ أُفق أوسع من التَّقدُّم والاستقرار.

إنَّ استلام سلطنة عُمان شهادة منظَّمة الصحَّة العالَميَّة بخلوِّ المنتَجات الغذائيَّة من الدُّهون المُتحوِّلة الاصطناعيَّة يُعَدُّ مشهدًا أكبر من مجرَّد اعتراف دولي. فالحدَث يحمل في جوهره دلالةً واضحة على أنَّ السَّلطنة تبذُل جهدًا نَوْعيًّا في رسم سياسة غذائيَّة تحمي الإنسان من المُكوِّنات الَّتي تُهدِّد حياته.. فالدُّهون المُتحوِّلة تُصنَّف ضِمْنَ أخطر مُسبِّبات الأمراض القلبيَّة والسَّكتات، والحدُّ مِنْها كان لفتراتٍ طويلة مطلبًا صحيًّا عالَميًّا، لم تتمكنْ من تحقيقِه سوى دوَل قليلة، والسَّلطنة اختارتْ أنْ تتقدَّمَ بخُطًى ثابتة في هذا الملف، عَبْرَ جهدٍ مؤسَّسي مشترك بَيْنَ مختلف الجهات؛ لِتصلَ إلى هذه المرحلة من التَّميُّز الصِّحي، حيثُ كان القرار ثمرة فَهْمٍ عميقٍ للعلاقة بَيْنَ الصِّحَّة والسِّيادة، ولم يكُنْ قرارًا سياسيًّا شكليًّا أو إجراءً بيروقراطيًّا.. والدَّولة الَّتي تُحصِّن مواطنيها من الخطر الغذائي، تُعلن بوضوح أنَّها قادرة على وضع مصلحة الإنسان فوق أيِّ اعتبارات تجاريَّة أو اقتصاديَّة آنيَّة.

الأرقام الَّتي أصدرَتْها منظَّمة الصِّحَّة العالَميَّة لم تأتِ من فراغ، بل عبَّرتْ عن واقعٍ فعلي تمَّ بناؤه في سلطنة عُمان خلال سنوات من العمل المتراكم؛ لِتصبحَ السَّلطنة واحدة من تسع دوَل فقط على مستوى العالَم نجحتْ في القضاء على الدُّهون المُتحوِّلة، فذلك يعني أنَّ هناك رقابة صارمة على المنتَجات، وتعاونًا مستمرًّا بَيْنَ الجهات المعنيَّة، واستجابةً من القِطاع الخاصِّ للمعايير الجديدة. والنَّجاح في هذا النَّوْع من الملفَّات لا يتحقَّق بالشِّعارات، وإنَّما بقرارات دقيقة تبدأ من منع الاستيراد، وتمرُّ بتحديثِ خطوطِ الإنتاج، وتنتهي بتغيير سُلوك المُستهلِك نَفْسِه، كُلُّ ذلك يحتاج إلى بنية تنظيميَّة لا تَترُك ثغرات، وإرادة سياسيَّة لا تُساوِم على صحَّة النَّاس. وعَلَيْه، إنَّ ما حدَث في عُمان هو نموذج يُحتذى به؛ لأنَّه أثبتَ أنَّ التَّحوُّلات الجذريَّة تبدأ من التَّفاصيل الصَّغيرة، مِثل مُكوِّنات منتج غذائي، لكنَّ أثَرَها يصلُ إلى نطاقٍ واسع يَمسُّ حياة كُلِّ فردٍ في المُجتمع من دُونِ استثناء.

إنَّ هذا التَّقدير الدّولي يعكس روح رؤية «عُمان 2040» الَّتي تتعامل مع الصِّحَّة باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من السِّيادة الوطنيَّة. فالدَّولة الَّتي تضع صحَّة مواطنيها ضِمْنَ أولويَّاتها، تَضْمَن لِنَفْسِها بيئة مستقرَّة، ومُجتمعًا أكثر مرونةً في مواجهة التَّحدِّيات، والإنجاز في هذا المجال لا يُمكِن اختصاره في عنوان إعلامي، بل يَجِبُ أنْ يفهمَ باعتباره جزءًا من سياسة متكاملة تهدف إلى بناء الإنسان السَّليم الَّذي يستطيع أنْ ينجزَ ويبدعَ.. فالحماية الغذائيَّة الَّتي تمَّ تطبيقها تؤكِّد أنَّ الحكومة تعمل بعقليَّة استباقيَّة، تبحثُ عن الخطر قَبل أنْ يقعَ، وتعالجُ المُشْكلات من جذورها، هذه الرُّوح الوقائيَّة تعكس فَهْمًا عميقًا لارتباط الغذاء بالصِّحَّة، ولأهميَّة التَّوازن بَيْنَ حُريَّة السُّوق وضمان جودة المنتَجات، وبذلك فإنَّ السَّلطنة لا تُراهن على المُسكِّنات أو الحلول السَّريعة، بل تَبْني نموذجًا يرتكز على الوعي والمبادرة، ما يجعلها في مصافِّ الدوَل الَّتي تُدير الصِّحَّة كقضيَّة وطنيَّة شاملة وليسَتْ مسؤوليَّة قِطاع واحد.