الأربعاء 21 مايو 2025 م - 23 ذو القعدة 1446 هـ
أخبار عاجلة

بداية وبوابة المستقبل

بداية وبوابة المستقبل
الاثنين - 19 مايو 2025 12:24 م

د. سلطان بن سعيد الشيذاني

20

الحاضر هو تلك اللَّحظة الَّتي نعيشها والَّتي سرعان ما تصبح ماضيًا لتحلَّ محلَّها لحظة من المستقبل في مسار زمني لا يتوقف. نعدُّ الحاضر ـ مجازًا ـ زمنًا معاصرًا غير محدَّد مداه. اللِّسان العربي أدرك هذا المعنى فكان له صيغتا فعل مرتبطان بالزَّمن أولاهما فعل ماضٍ وثانيتهما فعل مضارع يجمع الحاضر والمستقبل بدلالة الاستمرار. فإن عددنا الحاضر التقاطة أو برهة في مسار الزَّمن فيكُونُ ذلك فاصلًا بَيْنَ الماضي والمستقبل وعلى ذلك يُمكِننا اعتبار الحاضر بوَّابة أو بداية للمستقبل تتبدل باستمرار. ننطلق في طرحنا هذا على مبدأين أوَّلهما أنَّ ما نعرِّفه بالحاضر هو برهة زمنيَّة تتحرك إلى الأمام باستمرار وتفصل بَيْنَ عهدَيْنِ ماضٍ انقضى ومستقبلٍ آتٍ. وثانيهما أنَّ خطَّ الزَّمن الافتراضي هو مسار متواصل يكُونُ فيه المستقبل امتدادًا للماضي. وعلى ذلك فإنَّ استشراف المستقبل والتَّنبُّؤ بمستجدَّاته يبنى على معرفة الماضي وإسقاط ذلك المستقبل. فكما أنَّ القاعدة الفيزيائيَّة تَقول المادَّة لا تستحدث ولا تنتج من عدم فإنَّ مستجدَّات المستقبل وأحداثه لا تأتي بِدُونِ مقدِّمات وإرهاصات أو مسبِّبات. اقتضتْ حكمة الله بأن جعلَ للكونِ سُننًا ونُظمًا يَسير عَلَيْها ومتى عرفها الإنسان استطاع استشراف أحداث المستقبل ومستجدَّاته. فكما أنَّ حياة الإنسان تكُونُ وفق نُظُم وحركات لا إراديَّة مثل نبضات القلب وأخرى إراديَّة اختياريَّة كالسَّعي للعمل وللعِلم فكذلك سُنن الكون الأخرى مِنْها ما هو منضبط كحركة الأرض وتعاقب اللَّيل والنَّهار ومِنْها ما ينتج عن تفاعل الكائنات وتأثير الإنسان. وبالنَّظر إلى البُعدَيْنِ حركة الكون المنضبطة وتلك المتأثرة بفعل الإنسان نستطيع استقراء المستقبل والتَّنبُّؤ بأحداثه واستشراف تطوُّراته بدءًا من الحاضر.

لم تشهدِ البَشَريَّة تسارعًا تقنيًّا وتدافعًا عنيفًا واسعًا وتحوُّلًا حضاريًّا عميقًا مِثلما يحدُث في هذا العصر. تقاربتِ المسافات وتسارعتِ الأزمنة بَيْنَما أحوال النَّاس وأوضاع العالَم في تغيُّر مستمر وتحوُّل دائم. بقدر قدرتنا على قطع المسافات الطَّويلة في أوقات قصيرة وعلى التَّواصُل المباشر بالصَّوت والصُّورة الحيَّة وإن تباعدتْ أماكننا فإنَّه أصبح أيضًا بإمكاننا الوصول إلى معارف شتَّى وتجارب كثيرة بلُغاتها المختلفة وبكفاءة عالية ممَّا سرَّع ومكَّن كثير من التَّحوُّلات. الحاضر يشهد تحوُّلات كبرى ومتغيِّرات متسارعة لم تترك مجالًا إلَّا طالته ولا أُسلوب تعلُّم وأداء ومعاش إلَّا غيَّرته. وقد مكَّن هذا التَّسارع والاتِّساع توافر بيانات ضخمة ومعلومات كثيرة متزايدة ومتغيِّرة في كُلِّ لحظة. فتبدّل التَّحدِّي من كونه الوصول إلى البيانات والمعلومات إلى القدرة على انتقاء واستخدام المُهمِّ مِنْها بكفاء عالية. وقَدْ تغيَّرتِ المهارات المعرفيَّة والعلميَّة من الارتكاز على جمع المعلومات ونقدها وإثباتها إلى الاعتماد على طرائق انتقاء المعلومات والبيانات من مناجم بيانات ضخمة ومصادر مفتوحة متنوِّعة ودَوْر الذَّكاء الاصطناعي في تحديد موثوقيَّتها ودلالاتها وإسقاطاتها واستقراء التَّوَجُّهات والتَّنبُّؤات المستقبليَّة. يشهد العصر الحالي تغيُّرات كبرى في القدرات والجدارات والتقنيَّات وطرائق العمل والإنجاز وبوتيرة متسارعة تتطلب مواكبتها تطوير مقاربات جديدة تعتمد على تجويد مستمرٍّ للقدرات وتحسين دائم للجدارات والتقنيَّات. نعيش اليوم حالة فرط نشاط غير مسبوقة تأخذنا من عوالم إلى أخرى. عوالم متغيِّرة تدفعنا إلى اللَّهث وراء معطياتها المُتجدِّدة وتجذبنا إلى الانغماس في معمعة تطوُّراتها. بعُمق إدراكنا لهذه العوالم المتغيِّرة نستطيع بناء وتطوير ممكنات لمستقبلٍ نَضْمن فيه استقلالنا ورخاءنا وقدرتنا على الاستجابة الكفؤة مع متغيِّرات جديدة وتحوُّلات مستمرَّة ستزداد وتيرة تسارعها وتعاظم أثرها وتأثيرها.

أفرز التَّقدُّم التِّقني تحوُّلات كبرى طالتْ كُلَّ مجالات وأصعدة العمل والنَّشاط البَشَري. فقد أصبحتْ تقنيَّات كثيرة متاحة بعدما كان يحتكرها مطوِّروها بَيْنَما أصبح الحصول على البيانات والمعلومات أكثر سهولة وأيسر وسيلة لِمن يمتلك أو يطوِّر أدوات الوصول إِلَيْها وجمعها وتحليلها. وقَدْ تحوَّل الاهتمام من جمع بيانات الماضي وتحليلها إلى تتبع ما يحدث أوَّلًا بأوَّل لرسمِ التَّوَجُّهات الدالَّة على مستجدَّات المستقبل. أتاح استخدام البيانات «مفتوحة المصدر» وتوافر منصَّات تطوير التقنيَّات المتاحة للمطوِّرين مجالات رحبة ومتاحة لِمن أراد الإبحار إلى عوالم المستقبل. أصبح كثير من العلوم والمعارف متاحة للجميع وتلاشى كثير من حمايات الملكيَّة الفكريَّة وبراءات الاختراع ليتحوَّلَ الاهتمام إلى استقطاب العقول والقدرات المُبدعة والمبتكرة وإلى التَّشارك في التَّطوير والتَّحسين. أصبحتْ مُدد صلاحيَّة التقنيَّات والجدارات ودَوْرات حياتها قصيرة مُحتَّمًا تجديدها أو استبدالها بأخرى أكثر توافقًا مع التَّطوُّرات المستمرَّة. إنَّ التَّنافس والقدرة على الصُّمود والبقاء يتطلب بناء قدرة على إدارة التَّغيير والاستجابة للتَّحوُّلات المتسارعة.

تتبدَّى كُلَّ يوم عوالم جديدة لطرائق وأساليب حياة لم تُعهدْ من قَبل متأثرة بمعطيات التَّقدُّم التِّقني وبتقبُّل أسهل لقِيَم وأعراف وسُلوكيَّات مستجدَّة تؤثِّر على الأفراد والأُسر والمُجتمعات. لكُلِّ أمْر مستجد جوانب إيجابيَّة وأخرى سلبيَّة تكُونُ نتاج الاندفاع المحموم في استخدام التقنيَّات الجديدة والانبهار بمعطياتها دُونَ إدراك آثارها وأضرارها على الصحَّة البدنيَّة والذهنيَّة والنَّفْسيَّة والسُّلوكيَّة وعلى التَّرابط الأُسري والمُجتمعي. لهثَ النَّاس وراء كُلِّ جديد والمحكّ بزخم تسويقي هائل لا شكَّ أنَّه يكتنفه كثير من المخاطر والمحاذير، ومن ذلك إضعاف القدرة على التَّصدِّي لها والصُّمود أمام مغرياتها وعواقب ذلك. مواجهة هذه التَّحدِّيات والمخاطر المحتملة في عوالم المستقبل المتغيِّرة باستمرار يتطلب مقاربات جديدة ومبتكرة تتعدَّى أساليب المنع والحماية إلى التَّصدِّي المباشر من خلال نشرِ الوعي وتوجيه السُّلوكيَّات ومن خلال إيجاد بدائل تحفظ للمُجتمع تماسكه وللوطن استقلاله ونماءه. عِندَ الحديث عن المستقبل يطغَى التَّركيز على المقدَّرات الصُّلبة من تقنيَّات وإمكانات طبيعيَّة وقدرات تنمويَّة، بَيْنَما لا تحظَى المقدَّرات الليِّنة بما تستحقُّه وتتطلبه من اهتمام وعناية ممَّا يزيد من الأخطار الخفيَّة.

تحدِّيات المستقبل وفرصه تَكمُن في تغيُّر المشهد من الاعتماد الأكبر على بناء وإتقان المهارات الحِرفيَّة والجدارات الفنيَّة التَّخصُّصيَّة إلى التَّمكن من بناء قدرات التَّعامل مع المتغيِّرات وإدارة التَّحوُّل والقدرة على استبدال مهارات بأخرى ومن ذلك تطوير قدرات استشراف التَّوَجُّهات المستقبليَّة وتحديد الفرص والتَّحدِّيات المرتبطة بها. قطار الحضارة الإنسانيَّة ينطلق بسرعة كبيرة والصُّعود إِلَيْه والتَّنقُّل بَيْنَ مقصوراته يتطلب بناء قدرات متكاملة وجدارات كميَّة (اقتباسًا من فيزياء وميكانيكا الكمِّ) وتقنيَّات متطوِّرة ورشاقة عالية. بهذه الممكنات تستطيع الأوطان ومُجتمعاتها ومؤسَّساتها وأُناسها مواكبة التَّحوُّلات الحضاريَّة المتسارعة وتحقيق الرَّخاء ورفع مستوى معايش النَّاس والصُّمود أمام تحدِّيات وجوديَّة أكثر شراسة وتدافعات عنيفة لها تأثير مباشر على نُظُم العالَم السِّياسيَّة وأوضاعه الاقتصاديَّة ونُظُمه الاجتماعيَّة.

يشهد الحاضر تغيُّرات على كُلِّ الصُّعد ومجالات التَّمكين في المستقبل. مجالات التَّمكين المستقبليَّة تشمل القدرات وبما تتضمنه من منظومات القِيَم والسُّلوك الجمعي والفردي والأعراف المُتَّبعة في تنظيم التَّشارك في الأنشطة الإنسانيَّة المختلفة وأساليب الأداء وطرائق الإنجاز. ومن مجالات التَّمكين المستقبليَّة الجدارات وما تشمله من مهارات فرديَّة تخصصيَّة وأخرى عموميَّة وممارسات أدائيَّة عمليَّة في مجالات ومراحل الإنجاز البَشَري. تشهد الجدارات تطوُّرًا لافتًا ومتسارعًا جعلتْ من دَوْرات استخدام وأهميَّة كثير مِنْها قصيرة الأمد ومتغيِّرة باستمرار محتّمة ضرورة تطويرها وتحسينها أو استبدالها بأخرى. ومن مجالات التَّمكين المستقبليَّة التقنيَّات والَّتي تشهد تطويرًا مستمرًّا أوضح وأسرع وتيرة من مجالات التَّمكين المستقبليَّة الأخرى. أهمُّ هذه التَّطوُّرات التَّحوُّل من الاعتماد على الأداء الميكانيكي الحركي إلى الأداء الكهربائي الإلكتروني وأنظمة التَّحكُّم القائمة على الحوسبة والذَّكاء الاصطناعي. ولعلَّ أحَد أهمِّ جوانب التَّمكين المستقبلي لأيِّ أُمَّة أو مُجتمع الانتقال من الاعتماد على تقنيَّات طوَّرتها بُلدان أخرى وشركات كبرى متحكمة إلى تطوير تقنيَّات تمتلك زمام إدارتها واستخدامها. لعلَّ في التقنيَّات العسكريَّة والمعلوماتيَّة والتَّواصُليَّة أمثلة واضحة على وقوع المستخدمين تحت طائلة المُطوِّرِين لها وتحكُّمهم بها، سواء لكسبِ المنافع الاقتصاديَّة والسِّياسيَّة أو للضَّغط على الآخر لاعتبارات مشابهة.

إنَّ نظرة سريعة على واقع اليوم (الحاضر مجازًا) تدلُّ على تسارع كبير في ظهور واختفاء القدرات والجدارات والتقنيَّات وعِظم أثرها على مجالات الحياة كُلِّها. ممَّا يحتِّم عَلَيْنا التَّعامل الذَّكي والاستجابة السَّريعة والكفؤة مع المتغيِّرات والرّيادة في إدارة التَّغيير وتوجيه التَّحوُّلات. ثَمَن الإخفاق في ذلك كبير وقَدْ يؤدِّي إلى ظهور أخطار وجوديَّة للأوطان والمُجتمعات في عالَم تنافسي شرس وتدافُع بَشَري عنيف.

د. سلطان بن سعيد الشيذاني

مدير تنفيذي سابق بشركة تنمية نفط عمان

ورئيس سابق لجمعية المهندسين العمانية