حين تنظر إلى الاستثمار كأداة ماليَّة فقط، فإنَّ أقصى ما قَدْ تصل إِلَيْه هو موازنة أرباح وخسائر، أمَّا حين تنظر إِلَيْه كسياسة دَولة، تتداخل فيها الأبعاد الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والاستراتيجيَّة، فأنتَ تتحدث عن مشروع نهضة، لا عن دفتر حسابات، هذا ما يفعله جهاز الاستثمار العُماني. فبعيدًا عن اللُّغة الرَّسميَّة والأرقام المجرَّدة، ما نراه على الأرض هو مسعى واضح لترجمة (رؤية عُمان 2040) إلى شيء ملموس ومطبَّق على أرض الواقع، ولعلَّ تأسيس (محفظة التَّنمية الوطنيَّة)، لم يكُنْ قرارًا بيروقراطيًّا من جهاز سيادي، لكنَّه كان انحيازًا كاملًا إلى فكرة أنَّ الدَّولة يَجِبُ أن تستثمرَ في المستقبل، لا في الوقت الرَّاهن فقط، فهناك (160) شركة موزَّعة على عشرة قِطاعات رئيسة مرتبطة بقِطاعات التَّنمية الَّتي تدعمها الرُّؤية الوطنيَّة، ما يجعلها خريطة عمل لإعادة بناء الاقتصاد على أُسُس حديثة، من خلال تنويع مصادر الدَّخل، وخلق فرص العمل، وتعزيز الإنتاج المحلِّي، والأهمُّ من كُلِّ ذلك، أنَّها أصبحتْ إعادة تعريف معنى الدَّوْر الاقتصادي للدَّولة في زمن تتغيَّر فيه قواعد اللُّعبة كُلَّ يوم، وتشتدُّ في المنافسة، سواء على جذب الاستثمار أو استمراره.
وهنا لا بُدَّ أن نتوقفَ عِندَ الأرقام المُعلَنة لِفَهْمِ دلالتها والتَّعرُّف على السِّياق الَّذي اعتمدتْ فيه، فهناك (21.5%) نُمو سنوي في قِيمة الأُصول، و(25%) نُموًّا في الإيرادات، ومساهمة مباشرة بـ(3.7) مليار ريال في ميزانيَّة الدَّولة، كُلُّ ذلك لا يعكس فقط نجاحًا ماليًّا، بل يدلُّ على انضباط مؤسَّسي ووضوح في الرُّؤية، وهنا لا بُدَّ أن نشيدَ بما تمَّ ونؤكِّد أنَّ هذه النَّتائج ليسَتْ نتائج وليدة صدفة، أو عملًا عشوائيًّا مرتبطًا بظرف مؤقَّت، بل إنَّ كُلَّ تلك المؤشِّرات تؤكِّد أنَّه ثمرة لقرارات تمَّ اتِّخاذها بهدوء، بعيدًا عن فلاشات الإعلام، وبتخطيط يعرف جيِّدًا أنَّ الاستثمار الحقيقي لا يكُونُ في المدَى القصير. فالتَّحدِّي كان كبيرًا عِندَما قام الجهاز بضخِّ (8.8) مليار ريال عُماني في مشاريع طويلة الأجل، ما يؤكِّد أنَّ الدَّولة تنظر للمستقبل، ولا تبحث عن ربح سريع، فهي تعمل بتأنٍّ للوصول إلى منظومة اقتصاديَّة، يُمكِن أن تقفَ بثقة وسط العواصف العالَميَّة. وهنا يَجِبُ أن نشيدَ بالقائمين على هذا النَّوْع من التَّفكير، فمجمل الأفكار تؤكِّد أنَّ آليَّة العمل خرجتْ عن النَّمط التَّقليدي، ما يؤكِّد أنَّ الدَّولة ومؤسَّساتها تدرك أنَّ الاستدامة لا تُبنى بالكلام والتَّصريحات الرَّنَّانة، بل بالموازنات الذَّكيَّة بَيْنَ الطُّموح والواقع المبني على الوعي الذَّاتي بالقدرات. إنَّ أشدَّ ما أعجبني في تقرير جهاز الاستثمار العُماني، أنَّه عَبَّرَ بالأرقام عن فلسفة عامَّة تحكم الأداء، فجهاز الاستثمار لم يكتفِ بتوسيع الحصص، بل قرَّر في بعض الحالات أن يتراجعَ خطوة لِيتركَ للقِطاع الخاصِّ فرصة التَّقدُّم، ويزن بميزان الحكمة دَوْر الدَّولة الاستثماري، وهي فلسفة قائمة على دَوْر مُهمٍّ وحيوي للقِطاع الخاصِّ، فقَدْ شهدتِ الفترة الأخيرة (19) عمليَّة تخارج بعوائد بلغتْ (2.7) مليار ريال ليسَتْ تنازلًا، بل تصحيحًا لوضع غير طبيعي كانتْ فيه الدَّولة تَقُومُ بِدَوْر التَّاجر والرَّاعي والحكَم في آنٍ واحد، لِيكتفيَ جهاز الاستثمار بِدَوْر بناء قواطع للتَّنمية في قِطاعات رؤية «عُمان 2040»، وفتح المجال على الصَّعيد الآخر لدخول شركاء استراتيجيِّين محليِّين ودوليِّين، وهو ما جعل جهاز الاستثمار العُماني يتحول من أداة مسيطرة، تَحُول دُونَ دخول رؤوس الأموال المستثمرة، إلى جهاز محفِّز يعمل على كافَّة الأصعدة إلى جذب المزيد من الاستثمارات. وبدأنا نلمَسُ تَحوُّلًا حقيقيًّا في المشهد الاقتصادي، والبدء باستقطاب (638) مليون ريال كاستثمارات أجنبي، وهو جهد جعل السُّوق العُماني يقرأ من الخارج، وتظهر الفرص المتاحة للمستثمرين الجادِّين دُونَ منافسة غير مكافئة مع الدَّولة، وكأنَّ لتلك الخطوات دَوْرًا لِتتحوَّلَ الأنظار نَحْوَ السُّوق العُمانيَّة كسُوق جادَّة، واعدة، وقابلة للتَّوَسُّع، وهنا لا بُدَّ أن نشيدَ بتلك الجهود الَّتي تؤكِّد نجاعة الخطوات حين تُدار بعقلٍ استراتيجي، يبني ثقة، ويصنع شراكات، ويغيِّر الصُّورة الذِّهنيَّة للدَّولة في الدَّاخل والخارج؛ لِتنطلقَ قاطرة النُّهوض دُونَ توقف. إنَّني عِندَما أكتُب مشيدًا بجهد جهة ما، فأنا قَبل النَّظر إلى المعادلات الاقتصاديَّة الصَّعبة، أنظر أوَّلًا لعائدِ ذلك على الإنسان بشكلٍ مباشر، ومهما حققنا من نجاحات اقتصاديَّة، فأنا أدركُ أنَّ الأرقام يُمكِن السَّيطرة عَلَيْها سلبًا وإيجابًا، لذا كان الجانب الإنساني هو الموجِّه دائمًا لي، فالبُعد الإنساني والاجتماعي لهذا المشروع الَّذي تبنَّاه جهاز الاستثمار يتجلَّى في توفير (6500) وظيفة جديدة للكوادر الوطنيَّة، ورفع التَّعمين إلى (77.7%)، وهو رقم يتجاوز دَوْره كرقم في تقرير سنوي، لكنَّه جاء نتيجة إرادة حقيقيَّة تسعى إلى أن تكُونَ التَّنمية شاملة للقِطاعات وللبَشَر، خصوصًا مع الجهود الدَّاعمة للمؤسَّسات الصَّغيرة والمُتَوسِّطة، الَّتي كانتْ لسنواتٍ تئنُّ تحت وطأة الإقصاء غير المقصود، والَّتي باتَتِ اليوم تحصل على ما يقارب (20%) من المصروفات على سلاسل التَّوريد، فهذا التَّحوُّل النَّوْعي يُعِيدُ توزيع الفرص، ويُعزِّز الاقتصاد من قاعدته لا من قمَّته، والمشاريع الَّتي تغطِّي كُلَّ القِطاعات من التَّعدين إلى السِّياحة، ومن الطَّاقة إلى التكنولوجيا، لا تعَبِّرَ فقط عن تنويع اقتصادي، بل عن رغبة في امتلاك كُلِّ مفاتيح المستقبل، من الذَّكاء الصِّناعي إلى اللوجستيَّات، ومن الأمن الغذائي إلى السِّيادة التقنيَّة، وهنا فقط يصبح الاستثمار فعلًا وطنيًّا لا تجميليًّا. وهنا بالضَّبط تصنع التَّنمية المستدامة الشَّاملة الَّتي نرنو إِلَيْها، لا على الورق، بل في الميدان، وهو نموذج لِتحوُّل الأرقام في بيان سنوي أو مالي، لواقعٍ يلمَسُه المواطن في فرصه وحياته وفي آفاق بلاده نَحْوَ النُّهوض.
إبراهيم بدوي