الخميس 15 مايو 2025 م - 17 ذو القعدة 1446 هـ
أخبار عاجلة

من غايات الحج وحكمه ومقاصده.. «الغايات الدنيوية والحياتية» «1»

الأربعاء - 14 مايو 2025 01:26 م

إنّ للحج ـ بوصفه فريضةً من فرائض الإسلام ـ غاياتٍ، وحِكَمًا، وفلسفاتٍ، ومقاصدَ كثيرةً، نعرض هنا لشيء منها؛ لأنه لا يمكننا أن نبسطَ القول فيها لكثرتها، وتعددها، وتنوعها، لكنْ يمكن إجمالها في هدفين كبيرين يدخل تحتهما معظم المقاصد، وجلُّ الأهداف وأغلبُ الغايات، هما المنافع والمقاصد الدينية العبادية، ومنها المنافع والمقاصد الدنيوية النفعية، وهنا نتوسع في بيان تلك المقاصد بنوعيها:(دينية ودنيوية)، وفق التصور الآتي:

ـ حِكَمُ الحج ومقاصده الدنيوية والمادية الحياتية: قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في تفسير قوله:(لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ):(قال: منافع الدنيا والآخرة، أما منافع الآخرة، فرضوان الله تعالى، وأما منافع الدنيا، فما يصيبون من منافع البُدْن، والذبائح، والتجارات، وكذا قال مجاهد وغير واحد).

وكلمة (منافع) هنا جمع تكسيرٍ، وارد على صيغة منتهى الجموع، وهي الجمع المتناهي في جمعيته، فكأنه الجمع الذي لا جمعَ بعده، وهذا يعني أن منافع الحج دينية، ودنيوية لا يمكن حصرها، وتنِدُّ عن التحديد؛ لكثرتها، وتشابكها، وتنوعها، فاللفظة (منافع) على وزن مفاعل، وهي إحدى صيغ منتهى الجموع كمساجد، ومصانع، ومواطن، وبواطن، ومدائن، ومطابع، ونحوها، فالله تعالى جعل منافع الحج فوق أن تستقصى، وتَنِدُّ عن أن تحصى، وأنها متجددة، وفق كل مرحلة زمنية للكون، ووفق تحضُّر الأمم؛ ولذلك وردت على صيغة صرفية تتناسب مع عمر الدنيا، ومراحل تطورها، وجوانب، وسبل تقدُّمها، والكلمة نكرة، والنكرة غير محدودة، وتشمل جميع أصناف، وأطياف المنافع على اتساع معانيها، واختلاف دلالاتها، ومعانيها، وتنوعها، وتشكُّلها، ومبانيها، وحسب احتياج الخلق لها.

وقوله:(ليشهدوا..) أي: بأنفسهم، ومن خلال واقع يعيشونه بأنفسهم، ويرونه، ويحصلون فوائده بذواتهم، وشبه الجملة: (لهم) يعني أنها لصالحهم، ولمنافعهم، فاللام للملكية، وضمير الجمع هنا مهم؛ لأنهم في معظمهم يفيدون منها، ويرتزقون من ورائها في جملتهم، ومجموعهم، وأيضًا يتضح ذلك من قوله تعالى:(ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلًا من ربكم)، وبالطبع فإن الفضل هنا مقصود به البيعُ، والشراءُ، والتجارةُ، واكتساب الرزق، قال ابن جرير الطبري إمام المفسرين ـ رحمه الله:(وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: عنى بذلك: يشهدوا منافع لهم من العمل الذي يرضي الله، والتجارة، وذلك أن الله عَمَّ منافع لهم جميع ما يشهد له الموسمُ، ويأتي إلى مكة أيام الموسم من منافع الدنيا، والآخرة، ولم يخصص من ذلك شيئًا من منافعهم بخبر، ولا عقل، فذلك على العموم في المنافع التي وضعت)، ويساعد على هذا الفهم تنكير الكلمة من جانب (فضلًا)، وهو يفيد الشيوع، والعموم، وشبه الجملة:(من ربكم)، مهم، فهو يبين أن فضل الله لا حد له، ولا تخيل لآخره، وكلمة:(رب) تعني الرزاق، الفتاح، المعطي، المتفضل، الحنّان، المنّان الذي لا يمن على أحد بعطاياه، ولا يعاتب أحدًا على كثير نعماه، بل هو يزيد المجتهد، وينير طريقه.

فمن تلك المقاصد المادية الدنيوية أنه أباح لهم ابتغاء الفضل، والسعي على الرزق شريطة ألا يضيع الحاج منهم شيئًا من أحكام الحج؛ حتى لا يفسد حجه، فهو أمر أحله الله لهم، ويبيِّن ـ من وجه آخر ـ أن الإسلام لا يحجر على أحد اكتسابَ رزقه حتى في أوقات القيام بأعظم فريضة، وهي الحج الأكبر، وهو أمر يتماشى مع جمال الإسلام، وكماله، وجماله في أنه صالح، ومصلح للدنيا، والآخرة، ولكل زمان، ومكان، وأنه جاء لمصلحة العباد، فلم يضيق عليهم في نسكٍ غالٍ وكبيرٍ كنسك الحج من أن يكسبوا، ويربحوا، ويتاجروا، ويحققوا رغبتهم في التجارة، وازدياد المال الحلال، وهو أمر يتطلب العناية، واليقظة، ولكن مادام السعي على الرزق متاحا، فلماذا لا يستغله الحاج في سد مطالبه، وتلبية حاجاته من الشراء أو البيع، أو التجارة الحلال، وابتغاء الفضل من الله؟!.

إنه عمل أحله الإسلام، وأباحه الدين بقوله:(لا جناح عليكم) أي: فلا إثم، ولا تجريم لأي حاج يبيع، ويشتري في فترة الحج، ما دام قد أدى النسك المطلوب من طواف، أو سعي، أو حلق، أو تقصير، أو رمي، أو فداء، أو ذبح، ونحوه من متطلبات الحاج في تلك الفريضة المهمة من أعمال الحج ومقتضياته، وأحكامه.

ومن حِكَمِ الحج، ومقاصده الدنيوية: التقاءُ العلماء، وتبادلُ العلوم، والمعارف والكتب، والفكر، والثقافة، والإنتاج العلمي، وتبادل تلك المنافع؛ إما بيعا، وإما إهداء، وإما فتحَ خطٍّ علميٍّ لتلك المعارف؛ لتمشيَ بين البلدان في الأرض، ويتعرفَ الناس على ثقافاتٍ بعضهم، ويفيدوا منها: علمًا، ومالًا، ببيعها، والاكتساب منها، وتداولها بين الدول، والأجيال، والاستفادة من فكر بعضهم بعضًا، والتبادل الثقافي والفكري فيما بينهم.

ومنها الأكلُ من لحوم الأضاحي التي يذبحونها، أو يُهْدَوْنَ إياها من الحجاج معهم، فهي تمتِّن لمشاعر الأخوة، وتجذِّر لأواصر المحبة، وفيها كذلك نوعٌ من أنواع التكافل، والتراحم، والتعاون فيما بينهم، كما أن فيها تمتينَ أواصر الأخوة بمعناها الواسع؛ حيث تُرسَل تلك الذبائحُ ـ بعد انتهاء فريضة الحج ـ إلى البلدان كافة عن طريق الطائرات، وعربات النقل البرية الكبرى؛ لتنهض بحاجات المسلمين الفقراء في الدول الأخرى، ففيها أيضًا نوع من أنواع التكافل بمضمونه العالي، ومفهومه الواسع، ومعناه الشامل.

د.جمال عبدالعزيز أحمد

كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية

[email protected]