الخميس 15 مايو 2025 م - 17 ذو القعدة 1446 هـ
أخبار عاجلة

«الصراع مع الآخر» فـي رواية الحرب التي أحرقت تولستوي للكاتبة الأردنية زينب السعود

«الصراع مع الآخر» فـي رواية الحرب التي أحرقت تولستوي للكاتبة الأردنية زينب السعود
الثلاثاء - 13 مايو 2025 02:21 م
30


إلى الذين لن تحميهم خوذاتهم من الموت، ولن تشفع لهم كلمة «press» بهذا الإهداء أرسلت الكاتبة الأردنية زينب السعود روايتها إلى القارئ، وبه أبتدئ قراءتي حول الرواية التي صدرت في العام 2023م، وحصلت على الترخيص الدولي عام 2022م، وتناولت الحرب الروسية الأوكرانية، ولعل أول سؤال سيتبادر لذهن القارئ: لماذا الحرب الروسية الأوكرانية، لماذا لم تتناول حكاية جارتها التي تعاني منذ العام 1948م وقبله بكثير من احتلال يتعمّد نهج الإبادة؟

هذا السؤال أطرحه لأني تعودت سماعه بعد كتابتي رواية (فومبي) التي تناولت الاستعمار البلجيكي للكونغو، فسمعت من الكل: لماذا ذهبت هناك؟ لماذا لم تتناولي التاريخ العماني؟

ولكني لن أجيب على السؤال الموجّه لي، بل على السؤال الموجّه لزينب، وبه سيجد القارئ إجابتي ذاتها، وسأجيب عليه من بين أسطر روايتها، وبالأخص في الصفحة 89 حيث قالت على لسان أحد الأوكرانيين: (نحن أوروبيون، نحن لسنا من العالم الثالث، أوكرانيا ليست الشرق الأوسط، كيف يحدث لنا هذا؟)

هكذا ببساطة يرى العالم المتمدّن (أوروبا) أن الحروب قدر العالم الثالث (المتخلّف)، هذه الحقيقة ظهرت كثيرًا بعد الحرب الأخيرة على غزة، فوجدنا العالم الذي ينادي بحقوق الإنسان مفصلة بين النساء والأطفال وحتى الشواذ، يستثني أهل غزة باختلاف أجناسهم وأعمارهم، ويرى أن إسرائيل بإبادتها لشعب كامل (أكثر من مليوني إنسان) تدافع عن نفسها، ولم تؤثر بهؤلاء لا دماء الأطباء ولا أشلاء الأطفال التي يحملها الآباء، ولا صوت هند رجب وهي تبكي وتقول لموظفة الهلال الأحمر على الهاتف: (لا تتركيني أمانة) ورغم ذلك تركتها (مُرغمة) لأنها ببساطة لم تكن بالقرب منها، ولم يُسمح لأحد بالاقتراب منها لإنقاذها في حين سُمح لأكثر من ثلاثمائة رصاصة باختراق جسد هند ذات الست سنوات، بعد أن قصف فريق الإنقاذ المتوجّه لمحاولة إنقاذها.

الصحفيون الذين استشهدوا في غزة يمثلهم (يوسف) بطل روايتنا (محور القراءة ) وقلق زوجته ذاته تعيشه زوجات الصحفيين والإعلاميين، ولربما لن ننسى استشهاد حمزة وائل الدحدوح الصحفي، وابن الإعلامي وائل، الذي أُصيب هو أيضًا، فلا الابن شفعت له كلمة (Press) ولا الأب الذي فقد من أسرته من فقد، وغيرهم كثيرون. لا أدري إن كان بالإمكان اعتبار ما ورد في الرواية استشرافًا لما حدث في غزة بعد صدورها، أو وصف لما هو حاصل فيها منذ زمن بعيد، ولكن الحقيقة الأكيدة التي لا يمكنني تجاوزها أن الحروب في كل مكان ليست إلا نسخًا مكررة، تختلف مسمياتها، والأراضي التي تحمل أوزارها.

ومرةً أخرى لا أعرف إنْ كنت أخلط الحابل بالنابل في ربطي للأحداث في غزة بأحداث الرواية، ولكني لم أرَ (أوكرانيا) إلا في أحرف كلمة (أوكرانيا) عندما ترد، وبعض المفردات والمدن المرسومة هناك، وأما القلب فكان فيه الإنسان في كل مكان على هذه الأرض، ولو كان إنسانًا من الدرجة الثالثة أو الخامسة أو حتى العاشرة أو بلا درجة حتى في التصنيف اللاإنساني في هذا العالم، ورغم ذلك وحتى في الحروب في الدول ذات الدرجات العليا، يتم تصنيف البشر إلى درجات بحسب البدان التي أتوا منها، دون أن يشفع لهم أنهم يعملون أو يدرسون في تلك البلدان.

(جميع الطلاب العرب من الجنسيات المختلفة موجودون في قبو صغير ملحق بالسكن الجامعي الذي يقطنونه، ثم أردف قائلا: ولكن الخبر المؤسف الذي عرفته قبل قليل أنه تم توجيه الطلاب الأوكرانيين والأوروبيين للذهاب إلى ملجأ واسع أسفل مبنى رئاسة الجامعة، مزود بأسِّرة ووسائل راحة متنوعة، ولكن غير مسموح لغير الأوروبيين مشاطرة الأوكرانيين فيه.) ص 119.

هذا الأمر ذاته رآه العالم من خلال طرد المقيمين في أميركا من طلاب وموظفين رغم امتلاكهم لإقامة دائمة، دون اهتمام بتدمير مستقبلهم الدراسي والوظيفي بهذا التصرف لمجرد أنهم طالبوا بوقف الحرب على غزة، الحرب التي لم تُبقِ ولم تذر، وأميركا التي اشتهرت بحرية الرأي الذي لم يعد موجودًا إلا في (تمثال الحرية) المنصوب في عاصمتها. أعتقد أنني يجب أن أعود إلى الرواية، ولا أدري إن كنت خرجت منها فعلًا أم أن ذلك مجرد إحساس توجّسي وخجول من أن تشعر الكاتبة بأنني أخذت القارئ من عالمها الروائي إلى العالم الموازي، وإن كنت أظنها لم تخرج منه، ولكن لأعد إلى الكتاب بين يديّ. استخدمت الرواية تقنية (السارد العليم) في وصف أحداث رواية بطلتها امرأة تُدعى (جمانة) وهي زوجة الصحفي والإعلامي (يوسف) الذي يُنتدب للعمل في أوكرانيا قبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية. (يوسف) الذي يقبل بالذهاب إلى أوكرانيا ليغسل روحه بعد سنين من العمل في (سوريا)، فيخبرنا السارد عنه: (أحد الأسباب التي جعلته يقبل عرض القناة بتسلم مهام مكتبها في هذا الجزء من العالم، أنه أراد الهرب من ذكريات صور الجثث والدمار، وصوت القصف الذي يخترق السمع، ويهوي بالقلب إلى مكان سحيق. تأبى الحرب إلا أن تتبعه إلى بلاد لم يكن يتخيل يوما أنه سيرى فيها ما يراه الآن.) ص 102

تخلل السرد بعض الحوارات التي ساعدت السارد العليم في بث مشاعر الشخصيات في الرواية، ولكن ذلك لم يُقلل من إتقان السارد لعمله، وقد أكد ذلك يسري عبدالله واصفًا أهمية الحوارات في السرد الروائي (تمثل الحوارات بين الشخوص جزءًا مركزيًا من بنية الرواية، حيث تضيف إلى الرؤية السردية وتتممها) *1 وقد أخذني هذا الأسلوب وجعلني أكمل قراءة الرواية في (يومين) أنا التي أقرأ الكتب بالكثير من التروّي، والتمحيص، وتقليب الجمل والأحداث في رأسي.

تأخذنا الرواية أحيانًا من (جمانة) إلى (رشا) وزملائها، الطلاب العرب المُغتربين في أوكرانيا، والذين لم يجربوا العنصرية حتى وقعت الحرب، فسمعوا لأول مرة جملا مثل: (الأولوية للأوكرانيين والأوروبيين) وكان ذلك حتى في محاولة الهرب من الموت والنجاة بأنفسهم والخروج من البلد بعد أن تم منعهم من ركوب القطار المتجه إلى مدينة (لفيف) من (كييف) للخروح منها إلى (بولندا) بحجة أنهم ليسوا أوكرانيين. (أأنت أوكراني؟ طبعًا لا، إذًا لا يحقّ لك ركوب القطار، الأولوية للأوكرانيين) ص 139، هكذا منع الشرطي الطلاب العرب من ركوب القطار، ليبقوا في مدينة ليست مدينتهم يعانون ويلات حربٍ ليست حربهم.

نجحت الكاتبة في إقناعي كقارئ بالرواية وكأنها من كاتب عليم ببيئة روايته، من خلال وصفها للأمكنة في أوكرانيا، والكلمات الأوكرانية والروسية التي استخدمها أبطالها، وقد نجحت في اختيار العنوان المناسب لها (الحرب التي أحرقت تولستوي) بشكل ذكي، فالعنوان أحد (أهم عناصر النص الموازي وملحقاته الداخلية نظرًا لكونه مدخلا أساسيا في قراءة الإبداع الأدبي والتخييلي بصفة عامة، والرواية بصفة خاصة)* 2 وهو (عتبة النص، وبدايته، وإشارته الأولى) *2، ولو عدنا لعنوان الرواية سنجد أن تولستوي هو الكاتب الروسي المناهض للحروب، والذي لا يمكننا نسيان روايته (الحرب والسلام)، تولستوي أحرقته الحرب بعد موته من خلال حرق الطلاب لروايته (آنا كارنينا) ليتدفأوا بعدما وجدوا أنفسهم في العراء تحت الثلج، فأحرقوا كل ما يمكنهم حرقه حتى صورهم التي وضعوها في حقائبهم الصغيرة وهم يقررون الخروج بأقل القليل من أغراضهم، ورغم أني تمنيت لو كانت الرواية التي أُحرقت رواية (الحرب والسلام) إلا أني أحترم رأي الكاتبة التي ربما أرادت التشبث بخيط أملٍ في تحكيم العقل في قرارات الحروب التي لا ينتصر فيها أحد، فحتى المنتصر فيها خاسر بشكلٍ ما، ما عدا حروب الاستقلال طبعًا، فهذه كل خساراتها نصرٌ يُمهد لنصر أكبر. جاءت الرواية سهلة، جاذبة، متسلسلة الأحداث، يمكن أن يقرأها الكبير والصغير، القارئ المبتدئ والمتمرس، الهاوي والكاتب، بلغة لطيفة خالية من كل ما قد يخدش الحياء، فشكرا للكاتبة التي كان بإمكانها (دس السم في العسل) في رواية تدور بعض أحداثها في دولة أوروبية، وجذب الكثير من القراء، محبي تلك النوعية من الروايات، أو على الأقل إثارة الجدل، ولكنها اختارت الطريق الصعب الذي يليق بها وبروايتها، فشكرا لها مرة أخرى، وربما كان هذا الأمر سببًا من أسباب اختيار روايتها لتكون ضمن مادة المطالعة الحرة في المدرسة الأميركية في الكويت للمرحلة الثانوية بعد إجازتها من وزارة التربية هناك. من ألطف المفارقات في قراءتي لهذه الرواية أنني قررت هذه الفترة أن أقرأ كتابا عند ممارسة رياضة المشي بدلا من متابعة فيلم أكشن يُنسيني الوقت الطويل الذي لا يكاد يمر، وبينما كنت أمشي وأقرأ رواية (الحرب التي أحرقت تولستوي) اصطدمت بجملة في الكتاب تقول فيها الكاتبة: (الكتاب الذي كانت سارة تقرؤه وهي تحرك قدميها فوق الجهاز بانتظام لتقطع به الوقت قرّب المسافة بين بنت البلد والمغتربة التي لحقت بزوجها الصحفي) فلم أجد بِدًّا من التقاط صورة للصفحة أو المقطع خصوصًا وإرساله للكاتبة الصديقة زينب السعود ضاحكة من المصادفة التي جعلتني أمشي وأنا أقرأ هذه الجملة بالذات في الكتاب.

من الجمل التي تستحق التوقّف عندها في الرواية أذكر: (لا يخشى الناس فكرة الموت نفسها، ولكن انتظار الموت أو توقعه في أي لحظة هي الفكرة المرعبة.) ص 299. (لكل إنسان في هذه الحياة رحى تدور بين ضلوعه.) ص 179.