ما أن دارت أُولى عجلات المكائن في القرن التَّاسع عشر بمدينة مانشستر بإنجلترا، مُعلِنةً بداية «الثَّورة الصِّناعيَّة»، حتَّى تَبَلْوَرَ السُّؤال الأكثر أهميَّة وهو: مَن ينبغي أن يحكمَ بريطانيا «الجديدة»؟ وهو سؤال مُضنٍ فتح الباب واسعًا لمختلف الأفكار والاجتهادات .
وإذا ما ذهبَ الرجوعيُّون إلى التَّمسُّك بالطَّبقة الأرستقراطيَّة (المرتبطة أصلًا بالإقِطاع منذُ العصر الوسيط)، راحَ العديد من المتأثرين بأفكار الثَّورة الفرنسيَّة يعدُّون الطَّبقة الوسطى الشَّابَّة الجديدة هي مَن ينبغي أن تمسكَ بسدَّة القيادة الاجتماعيَّة، خصوصًا وأنَّها هي المسؤولة عن إطلاق الثَّورة الصِّناعيَّة. وفي حين كان كارل ماركس ورفيقه، فردريك أنجليز، ينظران في انتظار ثورة «البروليتاريَّة» الحمراء (العمَّال المتحالفين مع الفلَّاحين)، ذهبَ المفكِّرون المستنِيرون، من أمثال ما ثيو آرنولد Arnold وتوماس كارلايل Carlyle، إلى أنَّ الأرستقراطيَّة لا تصلح للحُكم وللقيادة، نظرًا لتفاهتها واهتمامها فقط بالحفاظ على تقاليدها القديمة (كمطاردة وصيد الثَّعالب باستخدام الكلاب المدرَّبة). وبَيْنَما عدَّ آرنولد الطَّبقة المُتَوَسِّطة الشَّابَّة طبقة متعامية بالمادِّيَّة وبجمع الأموال كَيْ تصعدَ إلى مصافِّ طبقة الأرستقراطيِّين، دعا كارلايل إلى «أرستقراطيَّة الموهبة»!
وعَلَيْه، استقرَّ رأي آرنولد هذا العقل الذَّكي، على «النُّخبة الفكريَّة» Intellectual elite باعتبارها النُّخبة المتحرِّرة من مكبِّلات النُّخبتَيْنِ الأرستقراطيَّة (الاقِطاعيَّة) والطَّبقة المُتَوَسِّطة (الماليَّة)، ذاهبًا إلى أنَّ النُّخبة الفكريَّة أعلاه يُمكِن أن تَقُودَ بريطانيا الثَّورة الصِّناعيَّة إلى برِّ الأمان نظرًا لأنَّها أقلّ مصلحيَّة ولأنَّها تمتلك عصارة أفضل ما قدَّم الماضي من خلاصات فلسفيَّة وفكريَّة عَبْرَ العصور، لذا أطلق عَلَيْها لفظ The Elite بوصفها وريثة خلاصة ثقافة أوروبا القديمة (الوثنيَّة) Hellenism، زائدًا ثقافة الشَّرق الأوسط (الرُّوحيَّة) Hebraism الدِّينيَّة القديمة كذلك.
وقد عدَّ آرنولد التقاء وتفاعل هذيْنِ التيَّارَيْنِ الفكريَّيْنِ هو «خلاصة ما فكَّر به الإنسان وما أبدعه». وبهذه الخلاصة ينبغي أن تتمسَّكَ النُّخبة الثَّقافيَّة الحقيقيَّة لقيادة بريطانيا الثَّورة الصِّناعيَّة من تعقيدات أزمتها المستعصية، متجاوزةً فشل تحالف الكنيسة والإقِطاع في حلِّ الأزمة الَّتي جاءتْ بها الثَّورة الصِّناعيَّة، مع إشارةٍ خاصَّة إلى ظهور طبقة العمَّال الكادحين الجياع الَّذين (رغم اصطفافهم في طوابير الكدح كُلَّ يوم) لا يجدُونَ ما يسدُّونَ به رمَقَهم من الخبز كَيْ يعيشوا مع أُسرهم سالِمِين!
أ.د. محمد الدعمي
كاتب وباحث أكاديمي عراقي