جاء في عاطر الخِطاب السَّامي لجلالة السُّلطان في افتتاح دَوْر الانعقاد الأوَّل من الدَّوْرة الثَّامنة لمجلس عُمان في الرابع عشر من نوفمبر 2023: «إنَّنا إذ نرصد التَّحدِّيات الَّتي يتعرض لها المُجتمع ومدى تأثيراتها غير المقبولة في منظومته الأخلاقيَّة والثَّقافيَّة؛ لنؤكدَ على ضرورة التَّصدِّي لها، ودراستها ومتابعتها، لتعزيز قدرة المُجتمع على مواجهتها وترسيخ الهُوِيَّة الوطنيَّة، والقِيَم والمبادئ الأصيلة، إلى جانب الاهتمام بالأُسرة؛ لكونها الحصن الواقي لأبنائنا وبناتنا من الاتِّجاهات الفكريَّة السلبيَّة، الَّتي تُخالف مبادئ دِيننا الحنيف وقِيَمنا الأصيلة، وتتعارض مع السَّمْت العُماني الَّذي ينهل من تاريخنا وثقافتنا الوطنيَّة».
وبالتَّالي يأتي حديث جلالته عن الاتِّجاهات والظَّواهر الفكريَّة السلبيَّة؛ استشعارًا للخطر النَّاتج عَنْها على مستقبل الوطن وشبابه، وما ينتظره مِنْهم من دَوْر محوري قائم على الوعي الجمعي والسَّلامة الفكريَّة؛ ومرتكزات لبناء إطار وطني واضح المعالَم محدَّد الأدوات، في إدارة الظَّواهر الفكريَّة وتتبعها والكشف عَنْها ودراستها وتحليلها وفهم الدوافع والأسباب الَّتي أسهمت في انتشارها، وإيجاد الحلول المناسبة لها بما يتناغم مع هُوِيَّة المُجتمع العُماني، والمزيد من الجهد والعمل المنظّم والشَّراكة الجادَّة، والتَّفاعل بَيْنَ مُكوِّنات المُجتمع وأطيافه ومنظوماته، ونشاط أكثر إنتاجيَّة قائم على التَّخطيط والتَّنظيم والضبطيَّة وكفاءة المحتوى ووضوح مسارات الأداء في المنظومات الدِّينيَّة والتَّعليميَّة والإعلاميَّة والتَّثقيفيَّة، وفي إطار من التَّكامليَّة، ورفع درجة التَّنسيق والحوار بَيْنَ مختلف فئات المُجتمع ومُكوِّناته، في سبيل بناء نموذج وطني في إدارة الظَّواهر الفكريَّة، قادر على تكوين حصانة مُجتمعيَّة ورقابة ذاتيَّة في مواجهة هذه التَّحدِّيات، وتعظيم مساحات الأمان القائمة على الوعي الفكري والبناء الدِّيني وغرس الوازع الدِّيني والأخلاقي وصناعة القدوات وتوظيف المبادرات المُجتمعيَّة المعزّزة للتَّوعيّة والتَّثقيف وبناء الأُطر، والاستفادة من التِّقنية بشكلٍ أكبر في ظل دخول الشَّباب في المنصَّات الاجتماعيَّة وانتشارها بَيْنَهم، وما سهلته الفضاءات المفتوحة من فرص شيوع المعرفة وتداولها بَيْنَ الشَّباب وتفاعلهم مع محتوياتها، ما يضع مؤسَّسات التَّعليم والإعلام والوعظ والإرشاد الدِّيني أمام مسؤوليَّة إعادة إنتاجها في فِقه الفرد وثقافته، وتمكينه من استخدام هذه التِّقنية بشكلٍ أفضل في نشرِ الفكر المتوازن والقِيَم العالية والأخلاق الحميدة، وتجسيد روح الشَّرع وقِيَم الدِّين والإعلاء مِنْها في استخدام هذه المنصَّات لِتكُونَ له زادًا وحفظًا، ما يعني اعتمادها على نُهُج نَوعيَّة واضحة، وأُطر تعليميَّة وتثقيفيَّة وتوجيهيَّة مبتكرة قادرة على تحويل هذه المنصَّات والفضاءات الإلكترونيَّة إلى مساحات آمِنة للبناء الفكري الرَّصين، لضمانِ فرص التَّأثير الإيجابي لها في ثقافة الأجيال وممارساتها. إنَّ نجاح منظومة البناء الفكري الآمن في حياة الفرد والمُجتمع يرتبط في أحد محاورها بتغيير قناعات الشَّباب نَحْوَ العديد من المستجدات الَّتي تحيط بهم وتؤثِّر فيهم، وتغيير المعتاد لدَيْهم وانطباعاتهم عن الواقع وما يرتبط بذلك من حالة الإحباط والتشاؤميَّة الَّتي تتداول بشكلٍ واسع بَيْنَ فئات الشَّباب حَوْلَ القضايا الَّتي باتَتْ تهمُّهم كالتَّوظيف والتَّشغيل والتَّعيينات والتَّسريح للكفاءات العُمانيَّة وفي ظلِّ ارتفاع مؤشِّرات أعداد الباحثين عن عمل والمُسرَّحِين من عملهم، أو يرتبط برفع درجة الجاهزيَّة الوطنيَّة في التَّعامل مع طموحات الشَّباب المتعلِّقة باستثارة المواهب والدافعيَّة فيهم، ورفع كفاءة سُوق العمل الَّذي يستوعبهم، وتعزيز حضور البرامج التنمويَّة والتَّطويريَّة الَّتي تُسهم في استشعار الشَّباب بمسؤوليَّاته واهتمام الجهات المعنيَّة في الدَّولة بأولويَّاته ومطالبه واتِّخاذ إجراءات داعمة للشَّباب فيما يتعلق بالأمان الوظيفي ومشاريع الشَّباب ودعم برامجه التَّطويريَّة، وحضوره في صناعة القرار الوطني وتعظيم موقعه في المحافظات أو ما يتعلق بثقافة الشَّباب الاقتصاديَّة والخطط التنمويَّة الدَّاعمة لبرامج تمكين الشَّباب وريادة الأعمال والعمل الحُر وغيرها مما يعزِّز فيه روح المواطنة والحسَّ الوطني ويَبني فيه أرصدة الثِّقة والوعي الجمعي بما يقدّم له من جهود وما يحظَى به من مبادرات، وما يتّخذ من أجْلِ الشَّباب من قرارات وطنيَّة تصنع له حضور الفعل والمشاركة العمليَّة في تحقيق مستهدفات رؤية «عُمان 2040».
وعَلَيْه، فإنَّ تجسيد هذه المستهدفات الوطنيَّة في تعظيم البناء الفكري للشَّباب يتَّجه اليوم إلى العمل الجمعي المعزّز بالتَّشريعات والاستراتيجيَّات والأدوات والبرامج الوطنيَّة الَّتي تستهدف تمكين الشَّباب ومنحه فرصًا أكبر لإدارة التمكُّن لصناعة التَّغيير، وتزويدهم بالمهارات النَّاعمة الَّتي تَضْمن لهم التَّكيُّف مع المتغيِّرات والتَّعايش مع أبجديَّات التَّطوير وقدرتهم على سَبر أعماق المعرفة وإعادة إنتاجها من خلال النَّقد البنَّاء والاستقراء والتَّمحيص والتَّحليل وإدارة الأزمات والتَّعامل مع الأحداث المتسارعة، وهو أمر يتطلب تَبنِّي أساليب مبتكرة في التَّوجيه والتَّثقيف واعتماد استراتيجيَّات عمل مستدامة في الإعلام الوقائي ورفع درجة الجاهزيَّة الَّتي تمنح الشَّباب، مجالًا أكبر لِفَهْم واقعهم وإدراك متطلبات مستقبلهم، والنَّظر إلى ما وفَّرته التِّقنية والفضاءات المفتوحة، وأوجدته منصَّات التَّواصُل الاجتماعي والتقنيَّات المتقدمة والذَّكاء الاصطناعي باعتبارها فرصًا لنموِّ الممارسات الأفضل والقناعات السَّليمة في إطار من البحث عن المعرفة الصَّحيحة من مصادرها، في مواجهة مشوِّهات الفكر النَّاتجة عن التَّطرُّف الفكري والتَّقليد الأعمى والانجراف خلف الإشاعات وارتفاع سُوق مروِّجي الدِّعايّة والإعلانات التجاريَّة، وهوَس الشُّهرة وإفلاس المحتوى، والسُّقوط الأخلاقي، والتَّنمُّر الفكري، وتوجيه الخلافات الفكريَّة إلى النَّيل من الرُّموز الوطنيَّة والثَّوابت، والتَّصدُّع العائلي والزواجي، والنسويَّة والإلحاد والشُّذوذ الجنسي، وتداعيات ارتفاع نسبة الجرائم في عام 2024؛ فإنها وفي ظلِّ وضوح منهجيَّات العمل المؤسَّسي في التَّعاطي مع هذه القضايا بما يراعي الخِطاب الشَّبابي وتوفير نماذج راقية في التَّعليم والتَّعلُّم والتَّثقيف معتمدة على المحاكاة والاستشعار والتَّثقيف بالأقران واستخدام الفضاءات المفتوحة بصورة إيجابيَّة؛ سوف تثمر عن تحوُّلات نوعيَّة ترقى بذواتهم وتعزِّز فيهم جوانب القيادة، وترسخ لدَيْهم مهارات وقدرات واستعدادات أكثر تفاعليَّة وابتكاريَّة، واعتماد منهجيات مستدامة في التَّخطيط والتَّنفيذ وحلّ المُشْكلات واتِّخاذ القرارات، وتبنى مبادرات رياديَّة قادرة على تحويل الاستجابة لهذه الأدوات لصالح البناء الفكري للشَّباب وإعادة رسم موقعه في منظومة العمل الوطني.
أخيرًا، يبقى على شباب الوطن أن يعيَ مسؤوليَّته في بناء وطنه وتعزيز ثقته بما تتخذه مؤسَّسات الدَّولة من جهود وما تسعى له من فرص لتعظيم الحوار الوطني، فإنَّ ما اتَّخذته من إجراءات وتوجُّهات في ملتقى «معًا نتقدم»، والمساحة الحواريَّة المباشرة المتاحة للمواطن مع متَّخذي القرار ـ إن أُحسن رفع سقف التوقُّعات واتِّخاذ القرارات الوطنيَّة الملهمة الَّتي تتَّجه للأخذ بأفكار الشَّباب والإجابة المهنيَّة عن تساؤلاته؛ من شأنه أن يصنع التَّحوُّل ويبني الفرص المعزِّزة للنضوج الفكري الشَّباب، فإنَّ ما يؤمن به الشَّباب العُماني من ثقافة متوازنة وفكر طموح ويثبته من شواهد الممارسة في ميادين العطاء والمنافسة ممكنات تتَّجه نَحْوَ استشراف مستقبل زاهر تنمو فيه مناخات الثِّقة والتَّعاون والتَّكافل وتعزّز خلاله روح التَّسامح والتَّعايش والاعتراف بالآخر، وبناء قدرة الفرد على صناعة الأمن والانطلاقة به نَحْوَ التَّنمية والتَّجديد والابتكار، ومشاركة العالَم آماله وطموحاته وتعميق روح الانتماء الإنساني، وبناء منظومة التَّعايش الفكري، والتَّسامح المعرفي، والاستقرار للإنسانيَّة جمعاء، والشَّراكة من أجْلِ التَّنمية، فإنَّ في تفاعل أبناء عُمان مع ظروف وطنهم ومستجداته وأحداث وأزماته، أو في استشعارهم لمناسباته الوطنيَّة ونجاحاته بأُسلوب تعلوه الحكمة ورُقي الذَّوق والاحترام والالتزام بأن تكُونَ سمتهم في التَّعامل مع هذه المواقف والتَّضحيات الَّتي يقدِّمونها، تعبيرًا صادقًا عن حُبهم لوطنهم وولائهم لجلالة السُّلطان المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ، وتصبح أصالة البناء الفكري مساحة أمان يعايشها الفرد في كُلِّ تفاصيل حياته، ممارسة تأمليَّة أصيلة للمزيد من الإبداع والابتكار والتَّكيُّف مع المستجدات والتَّعاطي مع الاختلاف والأفكار الاستثنائيَّة مهما كان نَوعها بمزيدٍ من التَّصحيح والمراجعة والتحليل والمحاكاة لتنصهرَ مع المُكوِّن الثَّقافي المُجتمعي، مجسِّدة الثَّوابت والهُوِيَّة والسَّمْت العُماني.
د.رجب بن علي العويسي