خلقَ الله النَّاس متفاوتين في القدرات والإمكانات وفي الأرزاق وفي النِّعم، فمِنْهم القوي ومِنْهم الضَّعيف، ومن الغني ومِنْهم الفقير، ومِنْهم العالَم ومِنْهم الجاهل، وقد جعل الله هذا التَّفاوت سنَّة من سُنن هذا الكون لِيتعاونَ النَّاس فيما بَيْنَهم، ولِيكملَ بعضهم بعضًا، ويسدَّ كُلٌّ مِنْهم احتياجات ونقص الآخر، وهذا التَّفاوت هو منطلق التَّكافل الاجتماعي.
نَعم.. يتفاوت النَّاس في مجالات مُتعدِّدة، ومِنْها التَّفاوت في الإمكانات الماليَّة، فمِنْهم الغني المقتدر الَّذي لدَيْه المال الكثير بما يفيض عن حاجته، ومِنْهم الفقير المعوز الَّذي يحتاج لِمَن يقدِّم له يد العون. ومن هنا كان في المُجتمع المُتبرِّعون، وكان هناك المستفيدون من التَّبرُّع أو المحتاجون. والمُتبرِّع قد يكُونُ فردًا، وقد يكُونُ مؤسَّسات كالشَّركات والمؤسَّسات الَّتي تستثمر الأموال وتحقِّق الأرباح، فتتبرَّع بجزء من هذه الأرباح. والمستفيدون من التَّبرُّع قد يكُونُون أُسرًا وعائلات محتاجة فيُقدِّم المُتبرِّعون لهم المال لسدِّ احتياجاتهم من طعام وشراب ومسكن وملبس وعلاج وتعليم، وقد يكُونُ المُجتمع نَفْسه، كإنشاء الأندية والمكتبات العامَّة، وتعبيد الشَّوارع، وإنشاء دُور رعاية الضُّعفاء من مسنِّين وأرامل وأيتام، ورعاية الحيوانات، وتقديم المال لعلاج مشاكل البيئة، وغيرها من احتياجات المُجتمع.
فالتَّبرُّع إحدى صوَر المسؤوليَّة الاجتماعيَّة، والتَّكافل والتَّراحم الإنساني. إلَّا أنَّ هذا التَّبرُّع يَجِبُ ألَّا يتَّسمَ بالعفويَّة والعشوائيَّة، بل يَجِبُ أن يوجَّهَ بحكمة وكفاءة، فيوضع في المكان الصَّحيح وبالطَّريقة الصَّحيحة وفي الوقت المناسِب، ومن هنا على المُتبرِّع الالتزام ببعض الواجبات مِنْها:
عَلَيْه إخلاص النيَّة لله تعالى، فعن عمر بن الخِطاب ـ رضي الله عَنْه ـ قال: سمعتُ رسول الله صلَّى الله عَلَيْه وسلَّم يقول: إنَّما الأعمال بالنيَّات، وإنَّما لكُلِّ امرئ ما نوَى. (رواه مُسْلم والبخاري) فصِدقُ النيَّة لله يجعل الإنسان لا يقرن تبرُّعه بالمنِّ والأذى وطلب المديح وحُب الظُّهور .فغايته رضا الله تعالى فحسب.
ومن واجبات المُتبرِّع التَّحقُّق من مشروعيَّة المال المُتبرِّع به، فيَجِبُ أن يتبرعَ بمال حلال خالٍ من الشُّبهات فعن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله : إنَّ الله تعالى طيِّب لا يقبل إلَّا طيبًا. كما يَجِبُ على المُتبرِّع وضع المال المُتبرِّع به في المكان المناسب، بحيثُ يسدُّ حاجة النَّاس والمُجتمع، فيقدِّم هذا التَّبرُّع لمن يستحقُّه، فعَلَيْه التَّحقُّق من مدَى حاجة المُحتاجِين، كما عَلَيْه أن يتحققَ بأنَّ المال قد صُرف في الغرض الَّذي مُنح لأجلِه، فإذا قدَّم تبرُّعًا لمحتاجٍ لإجراء عمليَّة لابنه مثلًا فعَلَيْه أن يتحققَ بأنَّه صرف المال فعلًا لهذا الغرض، فلم يقُمْ بشراء أثاث لمنزله، أو شراء ملابس أو لسفرة سياحيَّة، أو شراء الخمر والمحرَّمات أو غيرها من الأغراض، لذا يَجِبُ اتِّباع أساليب منح التَّبرُّع بما يَضْمن سدَّ حاجةِ المحتاج كأنْ يدفعَ للمستشفى مباشرة قِيمة إجراء العمليَّة، أو يدفع للصيدليَّة قِيمة الأدوية أو لأجهزة طبيَّة وغيرها.
ومن واجبات المُتبرِّع السَّعي لأن يكُونَ لهذا التَّبرُّع أثرًا مستدامًا طويل الأمد بدلًا من الاقتصار على تقديم المساعدات المؤقَّتة مِثل إنشاء مستشفى خيري أو مدرسة، أو حفر بئر ماء، وهو ما يُسمَّى الوقف الخيري، فالاستدامة في التَّبرُّع لها فضلُها وأجرُها عِندَ الله فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عَنْه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: إِذَا مَاتَ ابنُ آدم انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَّة، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وقد لا يُقدَّم التَّبرُّع للمحتاج بشكلٍ مباشر، فيُقدَّم عن طريق وسيط، وهذا الوسيط يتكفل بتوصيل هذا التَّبرُّع للمحتاجِين، كالجمعيَّات والمؤسَّسات الخيريَّة، وهنا تقع عَلَيْه مسؤوليَّة التَّحقُّق من أمانة وسلامة هذه المؤسَّسات، كما عَلَيْه الالتزام بقوانين تقديم التَّبرُّعات، فلكُلِّ مُجتمع يوجد به قوانين تنظِّم عمليَّة جمع التَّبرُّعات وتوصيلها للمحتاجين، كما يَجِبُ عَلَيْه أن يتحقَّقَ من أنَّ الجمعيَّة قد أوصلتْ هذا التَّبرُّع لِمَن يحتاجه، فمال التَّبرُّع أمانة في يد المُتبرِّع، ومن ينقل التَّبرُّع.
نَعم.. إنَّ التَّبرُّع شرفٌ لكنَّه أيضًا أمانة يَجِبُ وضعها في مكانها الصَّحيح، ولا يكتفي بإلقاء مسؤوليَّة توصيل التَّبرُّع للمحتاجِين على الآخرين، فالمقتدر عَلَيْه تقديم التَّبرُّع كما عَلَيْه وضعه في مكانه الصَّحيح، فهذا التَّبرُّع أمانة بِيَدِ المُتبرِّع. وعَلَيْه تأديتها بإخلاص ووعي بحيثُ تصبح هذه التَّبرُّعات وسيلة لبناء المُجتمع وتطويره وعزَّة أبنائه. فأموال التَّبرُّعات تُسهم تنمية المُجتمع وتماسكه، وتحسين اقتصاده، وتوزيع الثَّروة بشكلٍ سليم، وهو مصدر قوَّة المُجتمع وتطويره... ودُمْتُم أبناء قومي سالِمِين.
نجوى عبداللطيف جناحي
كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية
متخصصة في التطوع والوقف الخيري
Najwa.janahi@