في قلب ولاية طاقة بمحافظة ظفار، وتحديدًا في إحدى حاراتها، وُلدت حكاية استثنائية بطلها شاب عُماني اسمه سالم بن أحمد محاد العمري، وملهمتها امرأة عظيمة اسمها أُم سالم – طفول بنت رمضان بامخالف، التي عاشت ومضت، ولكنها تركت أثرًا لا يُمحى، لا في قلب ابنها فحسب، بل في الذاكرة الثقافية لوطن بأكمله.
كانت طفول بامخالف حرفيةً بالفطرة، تنسج بخيوط الصبر والحب فضياتٍ وسعفياتٍ تقليدية، وتجمع العملات القديمة، وتحفظ القطع التراثية كما تحفظ الأم أسماء أبنائها. نشأ سالم في كنفها، يتنقل بين رائحة البخور، وصوت الربابة، ولمعة الفضة في يد أمه، وكأن قلبه يتشرّب حب التراث منذ نعومة أظفاره.
في عام 1983، حين كان لا يزال شابًّا غضًّا، حمل سالم بعضًا من مقتنيات والدته وشارك بها في أول معرض تراثي له، وكان ذلك الحدث بذرة أولى لحلم لم يغب عنه أبدًا، وعلى مدى العقود التالية ظل يجمع المقتنيات، ويوثق القصص، ويصغي للذاكرة وهي تهمس من خلال كل خنجر وكل عملة وكل «قُفع» من سعف النخيل.
لكن القصة لم تبلغ ذروتها إلا في فبراير 2023م، حين تحوّل الحلم إلى واقع، وافتتح سالم العمري متحفه الذي أسماه (متحف تواصل الأجيال)، في الحي القديم من طاقة، بالقرب من حصنها العريق وبرج العسكر، كان المتحف بمثابة قصيدة شكر لوالدته، وصوتٍ عُماني أصيل يُنادي: (لن ننسى ماضينا).
دخل الزائرون فوجدوا الساحة الخارجية تحاكي حياة العُمانيين كما كانت يومًا: سورٌ من سعف النخيل، أبوابٌ ونوافذ تقليدية، أدوات صيد، وأشجار محلية، وسفينة الغنجة التي رافقت البحَّارة في رحلاتهم القديمة.
ثم يدخل الزائر إلى قاعة الاستقبال، فيجد نفسه وسط خيمة بدوية منسوجة بالصوف، يلامس تفاصيل حياة البدو: الصناعات السعفية، أدوات الطبخ، الزي البدوي، آلات موسيقية كـ(الضرغام) والربابة، ومكتبة صغيرة تضم كتبًا وتراثًا فكريًّا، وبعض المتحجرات التي تقف كشاهد صامت على قِدم الأرض والناس.
وفي عمق المتحف، يقف الزائر وقفة اعجاب أمام قاعة (أم سالم)؛ قاعة تنبض بروح طفول بامخالف، فيها غرفة نومها كما كانت، أدواتها الخاصة، مناديسها، أدوات الطبخ والزينة، وكل قطعة تحكي عن أناملها وحبها لما صنعت.
أما القاعة الكبرى، فهي متحف داخل المتحف. فيها قسم يعرض زينة الرجال والنساء من ظفار، بين الحضري والبدوي والريفي، خناجر وعقود ومشغولات فضية، وأزياء تقليدية، وعبق بخور لا ينطفئ، والقسم الثاني يعيد تشكيل البيت الريفي كما كان: سقف من القش، جدران من الحبال، أدوات المطبخ القديمة، الجلد والفخار، أدوات صنع السمن البلدي (القطميم)، ومهد خشبي لهزّ الطفل على إيقاع الأمومة.
وفي ركن هادئ من المتحف، خصص سالم قاعة (ديرهم)، وفيها كنوز من العملات القديمة، الورقية والمعدنية، التذكارية والعثمانية والعُمانية، تحكي مراحل من التاريخ وتُبرز صور سلاطين عُمان، إلى جانب نماذج مصغرة لحصون وسفن وأبراج.
لم يتوقف طموح سالم عند الحاضر، بل يخطط اليوم لافتتاح قاعة جديدة للحرف التقليدية، تعكس مهن الأجداد في التجارة والنجارة والزراعة والبناء، لتكتمل بذلك رسالة المتحف كجسر زمني يربط بين الأجيال.
ومع كل هذا، لم يكتفِ سالم بأن يكون حارسًا للتراث داخل الجدران. بل خرج إلى الناس، شارك في المعارض والمؤتمرات داخل عُمان وخارجها، أجرى مقابلات إذاعية وتليفزيونية، وفتح للمتحف صفحة في وسائل التواصل، جعلت منه ومن مشروعه رمزًا للوفاء والهُوِية والإبداع.
هكذا، لم يكن متحف تواصل الأجيال مجرد قاعة عرض، بل رسالة حياة. رسالة أُمٍّ تركت إرثها في يد ابنها، ورسالة ابنٍ صدق في حفظ الأمانة، فجعل من التراث لغة تربط أبناء عُمان بماضيهم الجميل.
د. أحمد بن علي المعشني
رئيس أكاديمية النجاح للتنمية البشرية