لا نرغب بالدُّخول في تفاصيل صناعة القرار وما يتعلق بها من جوانب أكاديميَّة، فهي مسائل نظريَّة ويَدُور حَوْلَها العديد من الخلافات، ولكن أرغب القول من باب التَّأكيد والمعرفة العمليَّة والواقع المشاهد: أن بعض القرارات تَصنع أزمات سياسيَّة وإداريَّة واجتماعيَّة وأمنيَّة وغير ذلك، بعض القرارات تتسبَّب بمشاكل وآثار لا حصرَ لها، فبَيْنَما وُجدتْ لمعالجةِ جانبٍ مُحدَّد من أزمة أو مُشْكلة ما نتيجة ضغوط سياسيَّة أو أمنيَّة أو اجتماعيَّة أو اقتصاديَّة، إلَّا أنَّها ـ وللأسف الشَّديد ـ تسبَّبتْ بمشاكلَ أكبر بكثير من المُشْكلة أو الأزمة الأصليَّة الَّتي أُريد معالجتها من خلال هذا القرار.
وما يُفاقم المُشْكلة بشكلٍ أكبر هو مكابرة مُتَّخذ القرار حيال القرار نَفْسه، حيثُ يلاحظ على بعض القرارات التَّفاقم واتِّساع الآثار السَّلبيَّة المختلفة؛ لأنَّها لم تجدْ حكيمًا عاقلًا يحتويها، بل صادفتْ مكابرًا خائفًا على منصبه وكرسيِّه من الزَّوال، فاتَّسع أثَرها السَّلبي وتسبَّبتْ بمُشْكلات رديفة للمُشْكلة الأصليَّة، فهي أي المكابرة وعدم الاعتراف بالخطأ من أشدِّ وأخطر التَّحدِّيات الَّتي تواجه صناعة القرار الصَّحيح.
ولا فَرق أن تكُونَ بعض هذه القرارات تتمُّ بالفعل أو بردِّ الفعل أو الامتناع عن الفعل، إلَّا أنَّ أخطرَها تلك الَّتي تُصيب الأداء المعتاد لأُسلوب صنع القرار بالاضطراب والخلل والحيرة؛ بسبب تضافر عناصر المفاجأة وضيق الوقت والشُّعور بالخطر الدَّاهم، وقلَّة المعلومات المُتاحة، وانعدام الثِّقة بَيْنَ المؤسَّسات والدَّوائر المحيطة بصانع القرار، والأخطر من كُلِّ ما سبَق أن توضعَ تلك القرارات بِيَدِ الأشخاص غير المناسبِينَ، وجميعها أمور تجعل عمليَّة اتِّخاذ القرار المناسب شِبه مستحيلة، وليسَتْ سوى تدمير للمقدرات ودفع باتِّجاه الفوضى وخلق حالة من عدم الاستقرار السِّياسي.
تأسيسًا على ما سبَق يُمكِن التَّأكيد على أنَّ أسوأَ القرارات الَّتي يتمُّ اتِّخاذها هي تلك القرارات الَّتي تكُونُ مجرَّد ردَّة فِعل من متَّخذ القرار على مسألة ما. ونحن هنا لا ننتقد ردَّة الفعل بحدِّ ذاتها، فهي أمْر طبيعي وأكثر القرارات تتَّخذ كردود أفعال، ولكن النَّقد يرتكز على تلك النّماذج الَّتي تصادف أشخاصًا غير مناسبِينَ أو غير مُتخصِّصين أو غير مهنيِّين، أو في الأغلب يعتمدُونَ في صناعتها على ما ينقل لهم وما يقال، والأسوأ عِندَما يكُونُ متَّخذ القرار هو صاحب مصلحة أو كما يقال (يقيس الشَّبعان على الجائع)، فتخرج تلك القرارات وكأنَّها من عالَم آخر.
الجانب الآخر من الموضوع: ما عِندَك من قدرات وما تمتلك من معلومات وبدائل متاحة قد لا توصل القرار إلى مرحلة التَّنفيذ والنَّجاح، وإنَّما يَجِبُ أن يقترنَ ذلك بنظرة بعيدة تخترق الحجب لِتنظرَ الجانب الآخر، إذا كانتِ الأزمة خارجيَّة كيف يفكر؟ ماذا يريد؟ من بجانبه؟ وهذه النّقطة بالتَّحديد تغلَّبتْ عَلَيْها بعض الدوَل المتقدِّمة عِندَما أوجدتْ نماذج بَشَريَّة أو تكنولوجيَّة تفكِّر وتعمل كما لو كان الطَّرف الآخر ماثلًا أمامهم، وبواسطة ذلك استطاعوا الحصول على معلومات شِبه دقيقة وعلى ردود الأفعال قَبل صدورها.
من زاوية أخرى تعيق صناعة بعض القرار قلَّة ونقص المعلومات وعدم وضوحها، خصوصًا تلك الَّتي يتمُّ صناعتها وفق معالجات مكتبيَّة، أو عَبْرَ بعض المُنفِّذين الَّذين كُلُّ همِّهم إرضاء مُتَّخذ القرار من البطانة السيِّئة أو أصحاب المصالح، والأخطر من كُلِّ ذلك انعدام الرُّؤية فهي لا تَقُومُ على رؤية واضحة وصورة صافيَّة، وإنَّما يشوبها ضباب كثيف يزيد الـــغموض الَّتي لا تسمح إلَّا لأصحاب البصيرة النَّافذة والرُّؤية الثَّاقبة بالتقرُّب مِنْها وكشف مكنوناتها واختراقها ومعالجتها بصورة موضوعيَّة، لذلك يرجع في هكذا مسائل إلى أصحاب الخبرة والتَّجربة الَّذين أفنوا أعمارهم في تفحص حقائق الأمور وخلفيَّات الأحداث.
ختامًا: يَجِبُ التَّصدِّي لمِثلِ هذا النَّوع من القرارات الَّتي تصنع الأزمات، بحيثُ لا تُترك لِتخلقَ أزمات أكبر من المُشْكلة الأصليَّة الَّتي أُريد حلُّها من خلال القرار المُتَّخذ، كما يَجِبُ الابتعاد عن المكابرة وعدم الاعتراف بالخطأ، وإلَّا فإنَّ النَّتيجة النِّهائيَّة هي الصِّدام مع المُجتمع والتَّحوُّل إلى أزمة أمنيَّة وسياسيَّة واجتماعيَّة.
محمد بن سعيد الفطيسي
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
رئيس تحرير مجلة السياسي – المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
MSHD999 @