الثلاثاء 06 مايو 2025 م - 8 ذو القعدة 1446 هـ
أخبار عاجلة

نبض المجتمع : أن تعيش الحدث

نبض المجتمع : أن تعيش الحدث
الأحد - 04 مايو 2025 12:49 م

د. خصيب بن عبدالله القريني

20


جميل أن تزورَ مكان له في ذاكرتك مكانة تاريخيَّة خاصَّة، والمكانة هنا ليسَتْ شرطًا أن تكُونَ شخصيَّة، بل قد تكُونُ جماعيَّة، ودائمًا ما ترتبط هذه المكانة الجمعيَّة بأحداث التَّاريخ، هذه المكانة التَّاريخيَّة قد ترتبط بالانتماء إلى بقعة مكانيَّة مُعيَّنة أو دِين مُعيَّن أو حتَّى فترة زمنيَّة مُعيَّنة في حياتنا، ففي فترة دراستنا للمرحلة الثَّانويَّة حدثتْ مأساة حرب البوسنة والهرسك. أتذكَّر في تلك الفترة مشاهدتنا للأخبار والصوَر الَّتي تبثُّها وكالات الأنباء والتلفاز العربيَّة والعالَميَّة ومقدار التَّعاطف الطَّبيعي الَّذي كنَّا نكنُّه لإخوتنا في تلك البقعة من العالَم بحُكم إنساني وإسلامي. كُنَّا نتابع الأخبار بشكلٍ يومي، كُنَّا شهود عيان عن بُعد لتلك الجريمة البشعة الَّتي ارتكبها الصِّرب، نكبر وتظلُّ تلك الأحداث عالقةً في أذهاننا، وبمجرَّد أن يذكرَ اِسْمُ البوسنة والهرسك نستذكر تلك الأخبار وتلك الأحداث الدَّامية، وبعد عودة الحياة إلى طبيعتها كنتُ أُمنِّي النَّفْس بزيارتها لأقفَ بِنَفْسي على بعض تلك الوقائع لأعيشَ بعض اللَّحظات الزَّمنيَّة مستذكرًا تلك المشاهد التَّاريخيَّة رغم قسوتها، ذلك هو نبض التَّاريخ الَّذي ينبض في أعماقك وذلك الرَّابط الجميل بَيْنَ الماضي والحاضر، الرَّبط بَيْنَ فترة زمنيَّة تعمَّقتْ فيها أحداث تلك المأساة الَّتي عاشها الشَّعب البوسني. كُلُّ ذلك ما شدَّني لزيارة عاصمة البوسنة والهرسك مدينة سراييفو، وإلى جانب تلك المأساة كانتْ كتُب المناهج الدراسيَّة أيضًا وفي نَفْس الفترة الَّتي كُنَّا ندرس فيها تتحدث عن تلك الدَّولة. فعلى أرضها اشتعلتْ شرارة الحرب العالَميَّة الأُولى وما تركه هذا الحدث من آثار على بقيَّة مناطق العالَم أجمع، وهو حدَثٌ مميَّز في الذَّاكرة التَّاريخيَّة. وعِندَما أقول مميَّز لا يعني أن يكُونَ إيجابيًّا، فمعروف أنَّ الحروب لا تأتي إلَّا بالدَّمار، ولكن لا يفقه ما أرمي إِلَيْه إلَّا الشَّغوف بزيارة الأماكن ذات القِيمة التَّاريخيَّة، حيثُ يقف مشدوهًا متأملًا ومتخيلًا الحدَث وكأنَّه فيلم يحدُث أمامه رغم مرور السَّنوات والأعوام على ذلك، شعور تتجاذبك من خلاله رهبة التَّاريخ وصلابة الجغرافيا فلا تنفك إلَّا أن تهيمَ في عالَم تشعُر من خلاله بالفخر بأنَّك أخيرًا عشتِ الحدَث كما تمَّ وصفُه. ولا يتوقف الأمْر على هذا الحدَث فقط، بل إنَّ حرب البوسنة والهرسك في بداية التسعينيَّات وما صاحبَها من أحداث ومآسٍ وما تبعها من اتفاقيَّات أتاحت للفرقاء الفرصة للتَّفكُّر والتَّدبُّر فيما حصل، وأثبتتْ لهم بأنَّ الحرب رهان خاسر، وأنَّ التَّعايش السِّلمي مهما اختلفتِ العقائد والأيديولوجيَّات هو المكسب الحقيقي، وعجَّلتْ وإن كان ببطء في إحلال السَّلام والأمان في رُبوع البلد.

أن تعيشَ الحدَث الَّذي شاهدته عَبْرَ التلفاز وأنتَ في مرحلة زمنيَّة مبكرة من عمرك وما يتركه في نَفْسيَّتك من آثار، سواء إيجابيَّة أم سلبيَّة شعور لا يوصف، فأن تزورَ المخابئ والأنفاق الَّتي صنعَها البوسنيون؛ لَكَيْ يستطيعوا العيش والتنقُّل والمقاوَمة وأن تسيرَ في بعضها، شعور لا يُمكِن وصفُه وتخيُّله، أن تشاهدَ المكان والسيَّارة الَّتي اغتيل فيها وليّ عهد النّمسا إيذانًا بقيام الحرب العالَميَّة الأُولى، وأن تلمسَ تلك السيَّارة وتأخذ صورة بجانبها، رسميًّا يعني أنَّك كنتَ هناك عام 1914، أن تصليَ في مسجد خسرو بك لِتشعرَ أنَّ الإسلام ما زال حيًّا رغم المِحن الَّتي مرَّتْ في هذه البقعة، ولتتأكد أكثر أنَّ هذه البقعة من الأرض شاهد على وجود الإسلام منذُ أزمان غابرة.. أن تزورَ المتاحف الَّتي توثِّق لتلك الحقبة الزمنيَّة المؤلمة، أن تشاهدَ آثار الرَّصاص الَّذي ما زال باقيًا إلى اليوم في بعض البنايات كشاهدٍ على تلك المجازر، وتستعيدَ تلك المشاهد التلفزيونيَّة كما هي.. كُلُّ ذلك لم تكنْ لِتشعرَ به لو لم تكُنْ شاهد عيان غير مباشر على أحداث تلك البقعة، فكم زرنا من مناطق ومُدُن وقُرى لم نشعُرْ بما شعرنا به في هذه الأماكن الَّتي كانتْ لها ذكرى في قلوبنا وعقولنا، إنَّها حالة استثنائيَّة تربط القلب بالعقل بالرُّوح في قالبٍ واحد.

د. خصيب بن عبدالله القريني

[email protected]