منذُ اللَّحظة الَّتي وطأتْ فيها قَدَما حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ أرض الجزائر الشَّقيقة، بدَا أنَّ هذه الزِّيارة تحملُ طابعًا خاصًّا يتجاوز الرَّسميَّة، والمجاملات الدبلوماسيَّة المعتادة. فقَدْ كان الاستقبال الجزائري لجلالته حافلًا بمشاهد من التَّقدير الصَّادق والاحترام العميق، وكأنَّ الجزائر أرادتْ أنْ تقولَ لعُمان وقائدها، أنْتُم في القلب، فالمشاهد الَّتي نقلَتْها الكاميرات لم تكُنْ مجرَّد صوَر رسميَّة، بل كانتْ ترجمةً حقيقيَّة لعلاقةٍ قائمة على المَحبَّة العربيَّة الأصيلة، فلم تكُنِ الحفاوة مجرَّد لياقة دبلوماسيَّة، بل امتداد لعلاقةٍ ضاربة بجذورها في التَّاريخ، ومليئة بالمواقف المتبادلة من الدَّعم والتَّفاهم في المواقف الإقليميَّة والدّوليَّة، وقد بدَا واضحًا أنَّ هناك حرصًا جزائريًّا رسميًّا وشَعبيًّا على منحِ هذه الزِّيارة طابعًا رمزيًّا يعكس عُمق العلاقة، خصوصًا أنَّها أوَّل زيارة (دَولة) من نَوعها لسُلطان عُماني إلى الجزائر، وجاءتْ بعد أشْهُر قليلةٍ من زيارة فخامة الرَّئيس عبد المجيد تبون إلى سلطنة عُمان، ما يضفي على الزِّيارة بُعدًا استثنائيًّا يؤسِّس لمرحلةٍ جديدة من التَّعاون الثُّنائي المُثمِر.
اللِّقاء الودِّي الَّذي جمع بَيْنَ جلالة السُّلطان هيثم وأخيه فخامة الرَّئيس تبون، وكذلك المباحثات الرَّسميَّة اليوم لم ولن يكونا مجرَّد حوار دبلوماسي رتيب، وإنَّما لقاءات ومباحثات تتَّسم بالدِّفء والعُمق والصِّدق، وتستعرض بشفافيَّة أبرز التَّحدِّيات والفرص الَّتي يواجهها البَلدان، وتركِّز على البناء، وحيثُ الحديث بلُغة المسؤوليَّة، وتقاسم الرُّؤية على أنَّ الشُّعوب تنتظر ما هو أكثر من الخِطابات، وأنَّ العمل المشترك هو الطَّريق الأقصر لِتَحقيقِ الطُّموحات، كما أنَّ هناك إشارات واضحة إلى أنَّ العلاقة بَيْنَ البلدَيْنِ تدخلُ مرحلةً جديدة قوامها الشَّراكة الاستراتيجيَّة والتَّكامل الاقتصادي، وتُترجم هذه الرُّوح فيما سيتمُّ خلال الزِّيارة من توقيع على مجموعة من الاتفاقيَّات ومذكّرات التَّفاهم حَوْلَ عددٍ من المجالات، كالطَّاقة والبيئة والسِّياحة وغيرها، ما يعكس اتِّساع أُفق التَّعاون، ويؤكِّد أنَّ ما تمَّ التَّوافُق عَلَيْه ليس مجرَّد نيَّات، وإنَّما خطَّة واضحة قابلة للتَّنفيذ. ويُمكِن القول إنَّ المباحثات اليوم لم تكُنْ فقط لتطوير العلاقة الثُّنائيَّة، بل أيضًا لتكريسِ نهجٍ عربي جامع، يَقُومُ على الاحترام والتَّنسيق والتَّكامل بعيدًا عن الشِّعارات.
ولعلَّ أهمَّ ما يُميِّز هذه العلاقة المُتنامية بَيْنَ عُمان والجزائر هو انسجامها مع الرُّؤى الهادئة والحكيمة الَّتي تنتهجها قيادَتا البلدَيْنِ في سياستهما الخارجيَّة، فكلا القائدَيْنِ يؤمنان بضرورة الالتزام بالمواقف المُتَّزنة، ورفض التَّدخُّل في شؤون الآخرين، والبحث عن الحلول السِّياسيَّة والسِّلميَّة للنِّزاعات في المنطقة، وهذا التَّقارب في الرُّؤية السِّياسيَّة يُعَدُّ حجَر أساسٍ في بناء الثِّقة بَيْنَ الدوَل، ويُشكِّل ركيزةً لانطلاقِ شراكات ناجحة، لا تُبنى فقط على الاقتصاد، بل على المبادئ المشتركة والتَّفاهم العميق. من هنا يُمكِن القول إنَّ هذه الزِّيارة ليسَتْ عابرة، بل محطَّة مفصليَّة في مسار علاقة يُمكِن لها أن تصبحَ نموذجًا لِمَا يَجِبُ أنْ تكُونَ عَلَيْه العلاقات العربيَّة، فهي علاقة تَقُوم على الاحترام المُتبادل، والمصالح المشتركة، والدَّوْر العربي البنَّاء في العالَم.. فالعلاقات بَيْنَ الدوَل لا تُقاس فقط بما يُوَقَّع من اتِّفاقات، بل بما تحملُه من انسجامٍ فكري وتقدير مشترك للتَّاريخ والمصير. نحن أمام تجربة حيَّة لِمَا يُمكِن أنْ تصنعَه الحكمة، والنيَّة الصَّافية، والعمل الجادُّ في العلاقات بَيْنَ الدوَل، فهي زيارة لم تكُنْ مجرَّد حدَثٍ سياسي، بل لحظة إنسانيَّة وعربيَّة بامتياز، ستبقَى في الذَّاكرة كرمزٍ للوفاء، والتَّعاون، والبناء على القواسم المشتركة.