طموح مرتفع، إرادة صلبة، فكر وقَّاد، كفاءة عالية، أفكار رائدة، نظرة متفائلة للمستقبل، هوايات، شغف، مهارة، رغبة جادَّة في بناء مشروع ناشئ، «حاضنة الإبداع الشَّبابي»، رصيد يحتشد بمحاولات جادَّة لتحقيقِ براءات الاختراع والابتكار... في عالَمنا العربي تتكرر كثيرًا هذه المصطلحات الفتيَّة والطَّموحة المتطلِّعة إلى المستقبل في أحاديث الشَّباب وعلى مواقعهم في وسائل التَّواصل، وتحتشد بمضامينها خطابات الزُّعماء والقادة والمسؤولين، والدِّراسات والبحوث وبرامج الإعلام الرَّسمي بمختلف قنواته... فهل يكفي الحديث المكثَّف وتضمينها في خططنا وبرامجنا السنويَّة والخمسيَّة واتِّخاذها شعارًا لِتَحقيقِ النُّمو والتَّقدُّم والازدهار وبناء إنجازات علميَّة تُنافس على تبوُّؤ مكانة مرموقة في مستقبل الأُمم الحضاري وتكنولوجيا الذَّكاء الاصطناعي؟ وهل نمتلك البيئة المحفِّزة والمشجِّعة القادرة على احتضان المواهب وتحقيق طموحات وتطلُّعات الشَّباب وقيادة مشاريعهم النَّاشئة وأفكارهم الجادَّة إلى الرِّيادة والمنافسة العالَميَّة؟ هل لدَيْنا الموارد الماليَّة السخيَّة المعتمدة والبرامج والخطط والنماذج والمؤسَّسات والشَّركات المتخصِّصة في احتضان مواهب الشَّباب وتحفيز الشَّركات والمشاريع النَّاشئة؟ هل قُمنا بتخصيص مُدُن «ذكيَّة» وتخطيط مناطق مجهَّزة ومعدَّة بكُلِّ الاحتياجات والمتطلبات لدعمِ وتطبيق وجذب الأفكار المضيئة طريق المستقبل والشَّركات النَّاشئة والمستثمرين المغامرين الَّذين يُسهمون في ابتكار حلول في مختلف مجالات وتخصُّصات المعرفة؟ نقرأ باستمرار في الصحف ووسائل الإعلام العربيَّة عن براءات الاختراع والمشاريع الابتكاريَّة والمواهب الفتيَّة الَّتي تبرع في مجالات المعرفة والذَّكاء الاصطناعي وتقديم الحلول في شتَّى المجالات الَّتي يطرحها الشَّباب، ولكنَّها سرعان ما تتلاشى وتغيب وتضمحل فلا يعرف عَنْها شيئًا، فما هي الأسباب يا ترى؟ الدراما الكوريَّة المعنونة بـ»الشَّركات النَّاشئة»، تعرض لمنافسات روَّاد أعمال شباب يتطلعون إلى تحقيق أحلام افتراضيَّة على أرض الواقع لأجلِ النَّجاح» وإضافة المزيد من الجودة والدقَّة والحلول السَّريعة على التقنيَّات والبرامج المستخدمة... «في عالَم الصِّناعة الشَّرس فائق التكنولوجيا في كوريا»، تتوالى المنافسات المحمودة، وتُعرض الابتكارات الرَّائدة وتسجَّل براءات الاختراع الَّتي تعالج مُشْكلات الحياة، وتُسهم في التَّيسير على البَشَريَّة ومساعدة الإنسان على المزيد من التَّقدُّم، وتسرع من عجلة الإنجاز في مختلف المجالات والأعمال، وتسارع الشَّركات ورجال الأعمال والمؤسَّسات لاحتضان الأفكار وجذب الشَّباب الموهوب وتقديم الامتيازات والخدمات المجانيَّة لإجراء التَّجارب وتحديث البرامج في استثمار ناجح ومثرٍ وله جدواه الرَّفيع... تحتشد الدراما بمفاهيم وعناوين ومصطلحات من مِثل «المستثمرين المغامرين ـ تكنولوجيا الذَّكاء الاصطناعي ـ تقديم حلول للذَّكاء الاصطناعي ـ الاستثمار المغامر ـ الشَّركات النَّاشئة ـ تطوير المنتج ـ تكلفة التَّشغيل ـ تطبيقات ذكيَّة لتحديد المواقع ـ أنظمة كشف الضَّوء وتحديد مداه ـ مستقبلات رادار أماميَّة ـ مستشعر فوق صوتي ـ نظام التعرُّف على الصور ـ نظام قيادة ذاتيَّة ـ سيَّارة ذاتيَّة القيادة....» أعمال دراميَّة محفِّزة، وحاضنة ومهيئة، تعمِّق الوعي بأهميَّة الابتكار والمواهب والاستثمار في الشَّباب والمستقبل والأفكار الثَّمينة المُهمَّة وفي تكنولوجيا الذَّكاء الاصطناعي وفي المعرفة والتقنيَّات الحديثة والسَّير قُدمًا في الإسهام في الرَّكب الحضاري العالَمي... فهل لدَيْنا أعمال فنيَّة بهذه القِيمة؟ هل لدَيْنا دراما تجاوزت قصص الحُب والحزن والألَم والتغنِّي بأمجاد الماضي وإنجازات الأنظمة السِّياسة...؟ يجري تصوير مُعْظم المشاهد الدراميَّة الكوريَّة في مدينة ذكيَّة مخصَّصة للاستثمار في «الشَّركات النَّاشئة»، و»المواهب الشَّابَّة»، الَّتي تمتلك المهارات والبراعة والعبقريَّة والتَّفرُّد، والابتكار وبراءات الاختراع، وفي «تكنولوجيا الذَّكاء الاصطناعي» وتقديم الحلول في مجالات «التكنولوجيا»... في هذه المدينة «النموذج» تُقدَّم التَّسهيلات وتُقرُّ الامتيازات وتُهيَّأ المكاتب لِمُددٍ معيَّنة مع خدمات «الخوادم والكهرباء والإنترنت» دُونَ دفع رسوم، ودعم مالي للشَّركات النَّاشئة يقدَّر بـ»١٠٠ مليون وون». يتمُّ إرشاد وتوجيه الوافدين الجُدد الَّذين اجتازوا الاختبارات والشُّروط الموضوعة إلى هذه المدينة «ساند بوكس»، وتقديم النُّصح والتَّوجيه لَهُم، وتتولى كُلُّ شركة ناشئة جديدة تدخل إلى المدينة اختيار مستشار لها مهمَّته تقديم الأفكار والخبرات ومعالجة المُشْكلات وضمان عدم تعثُّر الشَّركة النَّاشئة، وتقييم الأداء ومستوى الإنجاز وتقديم التَّوصيات حَوْلَ الإفراج عن الدَّعم أو منعِه واستمرار الامتيازات أو وقفها وفقًا لنتائج التَّقييم الَّذي يجري على أُسُس وآليَّات واشتراطات مُحدَّدة وشفَّافة. عِندَما طرحت مديرة تنفيذيَّة سؤالًا محدَّدًا على مستشار شركتها، عن الصِّفات الَّتي تجعل من «المرء رئيسًا تنفيذيًّا»؟ أجابها قائلًا: «هذا سؤال سخيف كأن تسألي ما الَّذي يجعل من المرء سياسيًّا عظيمًا»؟، إذ لا توجد في نظره أجوبة مناسبة لهذا النَّوع من الأسئلة، مضيفًا أنَّه وبدلًا من «البحث عن أجوبة غير موجودة اتَّخذي قرارات وسوف ينتقدونك مهما كان قرارك»، ولن تتمكني من اتِّخاذ أيِّ قرار إذا «كنتِ خائفة من التعرُّض للانتقاد، وإن كنتِ غير قادرة على اتِّخاذ القرارات فلن تتمكني من أن تصبحي رئيسة تنفيذيَّة». قَبل يوم أو يومين من عرض المشاريع المُخصَّصة «للشَّركات النَّاشئة»، يطرح المستشار بعض الأسئلة المُهمَّة على الرَّئيس التَّنفيذي من مثل «حجم الإيرادات المحصَّلة خلال ثلاثة أشْهُر من بدء العمل ـ أساسات التقنيَّة المستخدمة في المشروع ـ الخطَّة الماليَّة للشَّركة ـ حجم السُّوق المستهدف ـ المنافسين الحقيقيِّين...» وفي اليوم المُخصَّص لتقديم «العروض التقييميَّة» للمشاريع، توجّه الأسئلة عادةً إلى المديرين التَّنفيذيِّين للشَّركات النَّاشئة، من قِبل المقيمين وروَّاد الأعمال والمستشارين ومقتنصي الفرص، عن «حجم المنافسين للمنتج؟»، وعادة ما يأتي الردُّ بأنَّ المنافسين كثر، ولكنَّهم «لم يصلوا إلى مستوى الدقَّة الَّتي لدَيْنا»، ومن الأسئلة الأخرى المُهمَّة «مستوى كفاءة الخدمة وفعاليَّتها في تخفيض تكلفة العمالة كعنصر من عناصر التَّقييم للمشروع، ومستوى دقَّة الابتكار»، في إحدى هذه الجلسات الصَّاخبة، قدَّم نقيب العمَّال احتجاجًا غاضبًا على تسريح إحدى الشَّركات لعددٍ من عمَّالها على ضوء تطبيقها لابتكار جديد نجح في خفض تكلفة التَّشغيل والاستغناء عن بعض الموظَّفِين، فقدَّمتِ المديرة التَّنفيذيَّة مداخلةً ترد فيها على الاحتجاج، من أهمِّ ما قالته «بأنَّ مثل هذا الاحتجاج تقدَّم به مالكو عربات الريكشا قَبل (١٠٠) سنَة عِندَما انطلقت سيَّارات الأجرة في الشَّوارع، ولو أنَّنا فضَّلنا رزقهم على الابتكار، لكان عَلَيْنا ركوب الريكشا بدل سيَّارات الأجرة حتَّى اليوم». ومن «وادي السيلكون» يأتي روَّاد الأعمال ومندوبي الشَّركات إلى كوريا الجنوبيَّة، للتَّعاقد مع الشَّباب المغامرين وشراء الأفكار والابتكارات وبراءات الاختراع واستقطاب أصحابها من العباقرة والموهوبين وذوي المهارات العالية. في مختلف المشاهد الَّتي تعرضها الدراما كنتُ أتساءل: أين موقعنا نحن العرب بَيْنَ الأُمم المتقدِّمة في صناعة المستقبل والمنافسة على احتلال موقع في الرَّكب الحضاري؟
سعود بن علي الحارثي