الاثنين 05 مايو 2025 م - 7 ذو القعدة 1446 هـ
أخبار عاجلة

رأي الوطن : زيارة تسعى إلى التكامل

السبت - 03 مايو 2025 06:35 م

رأي الوطن

50


تُشكِّل زيارة «دَولة» الَّتي يَقُومُ بها حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ إلى الجزائر، لحظةً فارقة تعكس تحركًا مدروسًا في خريطة العلاقات العربيَّة ـ العربيَّة، حيثُ تتقاطع المصالح الاقتصاديَّة مع الثَّوابت السِّياسيَّة، وتلتقي الخصوصيَّة الحضاريَّة بروح الانفتاح الاستراتيجي. فالزِّيارة تحمل في مضامينها دلالات رمزيَّة عميقة، ليس فقط على مستوى العلاقات الثنائيَّة، بل في إطار إعادة تعريف أنماط التَّعاون الإقليمي في عالَم يتغيَّر بتسارع.. فعُمان والجزائر ليسَتا دَولتَيْنِ هامشيَّتَيْنِ في معادلة الشَّرق الأوسط وشمال إفريقيا، بل كيانان يمتلكان تقاليد دبلوماسيَّة عريقة ومواقف عقلانيَّة حافظتْ على توازنها رغم تغيُّر التَّحالفات من حَوْلِهما. وحين يلتقي زعيمان من هذا الطراز يمزجانِ بَيْنَ مدرسة الحياد العُمانيَّة الحكيمة، وذاكرة الثَّوْرة الجزائريَّة وممانعتها التَّاريخيَّة، فإنَّ الرِّسالة تتجاوز المجاملات السِّياسيَّة لِتصلَ إلى عُمق الطُّموح المشترك في صياغة نموذج تعاون عربي جديد، لا يَقُومُ على التَّبعيَّة أو الاصطفاف، بل على الاحترام المُتبادل والبناء المتكافئ. وتبرز أهميَّة الزِّيارة على الصَّعيد الاقتصادي، كفرصة عمليَّة لتفعيلِ شراكة تتخطَّى مرحلة النِّيَّات إلى التَّنفيذ، خصوصًا بعد إعلان تأسيس صندوق استثماري مشترك بَيْنَ البلدَيْنِ، فهذا التَّوَجُّه ليس تحركًا تجميليًّا للعلاقات، بل هو انعكاس لتحوُّلات حقيقيَّة في الرُّؤية الاقتصاديَّة العُمانيَّة والجزائريَّة معًا، خصوصًا في ظلِّ سعي البلدَيْنِ لتنويعِ مصادر الدَّخل بعيدًا عن الاعتماد الأحادي على النِّفط والغاز، وتتكامل الخبرات العُمانيَّة في مجالات النَّقل البحري، والخدمات اللوجستيَّة، والمناطق الحُرَّة، مع السُّوق الجزائريَّة الواسعة، ومواردها الطَّبيعيَّة الهائلة، واحتياجها المُتنامي لنقلِ التكنولوجيا وتحفيز ريادة الأعمال.. الأهمُّ أنَّ هذه الشَّراكة تأتي على خلفيَّة استقرار سياسي في كلا البلدَيْنِ، ما يوفِّر مناخًا مؤاتيًا لِنُموٍّ استثماري آمن وطويل المدَى، وقد يكُونُ لهذا الصُّندوق دَوْر في تحفيز القِطاع الخاصِّ لاقتحامِ مجالاتٍ جديدة مِثل الطَّاقة المُتجدِّدة والتكنولوجيا الزراعيَّة والصِّناعات التَّحويليَّة، ممَّا يحوِّل العلاقة من تبادل تقليدي إلى تكامل اقتصادي مستدام مبنيٍّ على القِيمة المُضافة. أمَّا البُعد السِّياسي في الزِّيارة، فهو يتجاوز الثنائيَّة البحتة، ويعكس تقاربًا نادرًا في المواقف تجاه القضايا الإقليميَّة والدّوليَّة، وعلى رأسها القضيَّة الفلسطينيَّة، وملفَّات إقليميَّة، فكُلٌّ من مسقط والجزائر يرفض الانجرار وراء سياسات المحاور، ويدعمان الحلول السِّياسيَّة السِّلميَّة، ما يخلق أرضيَّة خصبة لتنسيقٍ أوسع على مستوى المبادرات العربيَّة الجماعيَّة. ويأتي اللِّقاء بَيْنَ جلالة السُّلطان وفخامة الرَّئيس تبون كرسالة تؤكِّد أنَّ هناك صوتًا آخر ممكنًا، عقلانيًّا، متزنًا، يسعَى إلى تثبيت مفاهيم السِّيادة الوطنيَّة، والقرار المستقل، وعدم التَّدخُّل في الشُّؤون الدَّاخليَّة.. فهذه ليسَتْ مجرَّد مبادئ نظريَّة، بل خطوط حمراء تشكِّل أساس المدرسة الدبلوماسيَّة لكُلٍّ من البلدَيْنِ، وتعزِّز موقعهما كقوَّتَيْنِ ناعمتَيْنِ قادرتَيْنِ على التَّأثير لا عَبْرَ الضَّجيج، بل عَبْرَ احترام التَّوازنات واستثمار العلاقات الدّوليَّة بحكمة. لا تقتصر زيارة جلالة السُّلطان هيثم إلى الجزائر على شراكات اقتصاديَّة أو تقاطعات سياسيَّة، بل تمتدُّ لِتلامسَ جوهرًا أعمقَ يتعلق بالجانب الثَّقافي المشترك، وبفكرة الهُوِيَّة كقوَّة ناعمة تُعِيدُ رسم ملامح العلاقة بَيْنَ الشُّعوب قَبل الأنظمة.. فالجزائر الَّتي تحمل في ذاكرتها الجماعيَّة تجربة تحرُّر مُلهِمة، وعُمان الَّتي تمتلك رصيدًا من الحكمة السِّياسيَّة والانفتاح الحضاري، يجتمعان هنا لا فقط لتوقيع اتفاقيَّات، بل لزرعِ بُذور تفاعل ثقافي طويل الأمد، فالزِّيارة تفتح الباب لتعاونٍ أكاديمي، وإعلامي، وفنِّي، من شأنه أنْ يُعِيدَ إحياء الرَّوابط الشَّعبيَّة بَيْنَ بلدَيْنِ لم تطغَ بَيْنَهما يومًا لُغة الاستهلاك السِّياسي. بل قد تكُونُ هذه الزِّيارة بمثابة دعوة لتأسيسِ مشروعٍ ثقافي عربي جديد، ينطلق من مشترك الهُوِيَّة، لكنَّه يُواكِبُ تحدِّيات العصر برؤية تقدُّميَّة، في زمنٍ باتتْ فيه الثَّقافة العربيَّة مُهدَّدة بالتَّفتيت أو التَّشويه، يبدو أنَّ تحالفًا بَيْنَ الذَّاكرة الجزائريَّة والهُوِيَّة العُمانيَّة يُمكِنه أنْ يرسمَ خريطة جديدة للقوَّة النَّاعمة العربيَّة، من خارج المراكز التَّقليديَّة، وبعيدًا عن صخَب الخِطابات المؤقَّتة.